كُلنا سنموت، الموت حق، كلنا نعرف هذا، لكننا نخشى أن نُكثر التفكير حول هذه النقطة، نخشى من سوء الطالع الذي قد يأتي من التفكير بالموت أو الفقد أو المرض. نتجاهل هذه الحقيقة ظنًّا منّا أنها الطريقة الملائمة للعيش بسعادة، ماذا لو كان تفكيرنا بالموت والتحضير له هو الطريق الأنسب لإضفاء الحكمة حول أيامنا المعدودة هذه؟
تذكّر إنّك ستموت، أو (مومنتو موري Momento Mori) هذا الشعار الذي يتخذّه الرواقيون أسلوبًا، منذ أيام سقراط الذي كان يعتبر الفلسفة لاشيء سوى التحضير للموت، والموت نفسه.
بالطبع، التفكير بالموت يجب ان يكون بالطريقة الصحيحة، مومنتو موري لا يطلب منك أن تتذكّر الموت وتنوح على نفسك، أخطأت الهدف هنا، أو ان تُسرف في عدمية هذه الحياة، تذكّر الموت، في عُرف الراوقيين هو الطريقة لإيجاد المعنى في كل يوم تعيشه، في كل عمل تنجزه، أن تُركّز في الأعمال النافعة، الباقيات الصالحات، ان تتجنّب إسراف الوقت في الملذّات، فاذا بقي لك أسبوعا لكي تعيش، هل ستصبو لما تصبو إليه الآن من هذه التوافه؟ كيف الحال إن بقي لك يومًا واحدًا؟
ليس بالإمكان أن تعيش جيدًا اليوم إلّا اذا عاملته كأنّه الأخير
في أيام الرومان، كان العُرف أن القائد المُنتصر يعود محمّلا بالغنائم الى شوارع روما، تحيّيه العوام بالتهاليل، لا يُلاحظ في هذا المنظر البطولي أحد المحاربين خلف الإمبراطور القائد، يهمس في إذنه: تذّكر إنّك ستموت. أيُّ جُملة في ذروة الإنتصار؟
نفس الموقف حصل للمنتصر ذلك اليوم في شوارع روما، الأمبراطور ماركوس اوريلويس وشريكه في الحُكم لوسيوس عادا منتصرين من أحدى المعارك في الفترة بين 166-168م، الغنائم التي نُهبت من مدينة سلوقية معروضة، ومنها تمثال إله الشمس، أبولو. خلفهم يهمس أحد الجنود: مومنتو موري، للمفارقة، لم يعرف احد في تلك اللحظة إن الجنود قد عادوا من تلك الحملة مُحملّين بشيء آخر، مرض معدي سينتشر في روما ويتسبّب في مقتل خمسة ملايين روماني في ارجاء الامبراطورية على مدار عقد من الزمان، سيفتك بالمقرّبين من ماركوس اوريليوس واحدًا بعد أخر، بل حتّى ماركوس نفسه (180م) في نهاية حياته، الطاعون الذي سيحمل اسم عائلة اوريليوس -التي تبنّته- الى الأبد، الطاعون الأنطوني.
حسب وصف الطبيب الروماني جالينوس الذي عاصر تلك الحقبة، فأعراض ذاك الطاعون في البداية كانت تُشابه ما نسمّيه بالانفلونزا في وقتنا هذا، حُمّى داخلية، سعال، وألم وإنتفاخ في الحلق، إضافة الى الصداع وآلام في العضلات، في هذه الفترة يموت ربع من تظهر عليهم هذه الأعراض، وبعد اسبوع، تبدأ أعراض أشد، كالتقرّحات الداخلية، والطفح الجلدي الفحمي الذي يتملئ بالدم. كان هذا الطفح يتقشّر ليكشف اللحم تحته إن كان المريض يتماثل للشفاء، وإذا تحوّل برازه الى اللون الأسود فهذه علامة تُنذر بقرب الأجل، كان يعني هذا وجود نزيف داخلي في الجهاز الهضمي. من خلال هذه الإشارة عرف ماركوس أوريليوس أنه لابدَّ ميتٌ بعدما وقع طريح الفِراش أثناء إحدى حملاته العسكرية.
بالطبع، عندما يقترن وصول الطاعون بنهب سلوقية وتمثال أبولو، سيفترض الناس إنّه عقاب إله الشمس على روما، وشاعت الإشاعات في تلك الفترة، وكثر المخرّفون، حتّى إنَّ أحدهم كان يستلّق شجرة التين ويتوّقع متى ستصبُّ الآلهة غضبها وُتنهي العالم، كان يعرضُ لهم الخدع السحرية أيضا، صدّقه البؤساء، حتّى إن دجالا صنع إلها جديدا لمساعدة الناس على الشفاء، جسم ثعبان برأس بشرية منحوتة، أسماه جيلكون، وكان هذا يتحدّث بفعل نفخ مساعدي هذا الدجّال في أنابيب خفية متصّلة بالرأس، أفكار السامريين متشابهة، عجِلا له خِوار، أو أفعى لها فحيح! ما أشبه الليلةَ بالبارحة!
ماركوس لم يكن يُصدّق هذه الخرافات، كان يعلم أنّ هذا المرض كان منتشرا، يُصيب حتى القبائل البربرية التي يقاتلها، حتّى في المدينة التي نهبها، لا يُمكن ان يكون العقاب على المعتدي والمعُتدى عليه في ذات الوقت! حتّى إنّه لم يكن يآبه بهؤلاء، كان يعفو عنهم ويُطلق سراحهم، أخر ما يحتاجه في هذا الوقت هو أن يجعل من المُخرّفين شهداء. وبما أنّ القضاء على هذا الوباء لم يكن تحت سيطرته، ماركوس كفيلسوف رواقي كان يهتم بشيء أخر، أن يتقبّل هذه الحقيقة، ويتعلّم منها، ما الدروس التي يمكن أن يتعلّمها من الطاعون؟ أن الموت قريب، وإننا نموتُ جميعا، الاسكندر الأكبر وسائق بغله، يتساويان في الموت، وفي إختلاط عظامها بالتراب.
ماركوس بفعل صداقته مع جالينوس كان عالمًا بأعراض هذا المرض، كان يتخيّل بين الفينة والأخرى أنّه يُصاب بالحُمى، أن يكون ضعيفا مُنهكا، ان تملأ جسده القروح ويُكافح من أجل التنفس، كان يفكر بأنَّ الموت قريب.
أبكتيتوس، وهو فيلسوف رواقي آخر سبق أوريليوس، كان يُخبر تلاميذه أننا يجب ان نكون مستعدين عندما ياتي المرض، وإن من يتحلّى بالحكمة لا يجب عليه أن ينسى كل ما تعلّمه منها عند المرض، لا يهرب الملاكم عند أول لكمه!
إذا تحملّت الحمّى، فأنت سيّد نفسك، كيف تتحمّل الحمّى؟ بأن لا تلومَ الله ولا الإنسان على ما أصابك، وأن لا تكون منزعجا ممّا يحدث، أن تفعل كل شيء لأجل أن تتعافى، وأن تتوقع الموت أيضا، وعندما يأتي الطبيب، لا تنزعج ممّا يقوله، ولا تبتهج إن قال لك إنّك تُبلى بلاءً حَسنًا -أبكتيتوس
أعلم، قد تبدو حِكم أبكتيتوس مأساوية، هو لا يُريد منك أن تكون حجرًا صلبا في مواجهة المصاعب، بل هو يعرف تمامَ المعرفة إن المشاعر تراودنا، الرواقيون لا يعتبرون بالمشاعر الأولية التي تُراود الإنسان، فتلك يعتبرونها لا فارقة، نتشارك فيها مع الحيوان، عندما يواجه الرواقي شيئا مخيفا، سيخافُ، تراوده مشاعر الغضب عند رؤية ما يستفزُّ، وقد يرغب فيما يستلّذ، قد يأسى على مرضه، لكنّ كيف سيتصرّف بعد ذلك؟
بعد المشاعر الأولى، هناك مفترق طرق، الغِرُّ سيسلك الطريق الأشد صعوبة، سيبني الأحكام على تلك المشاعر، سيبالغ ويهوّل، سيتخيّل شيئا ليس موجودا، أمّا الرواقي، فإنّه سيضبط أحكامه، سيصف الأحداث كما هي بدقّة، بلا مبالغة ولا تهويل، ويسأل نفسه، ماذا يُمكن أن يفعل في هذا الموقف، ما هي الأشياء النافعة التي يُسيطر عليها؟
لا تفرض الأشياء الخارجية، التي تطلبها أو تتجنّبها، نفسها عليك فرضًا، إنّما أنت من يخرج اليها، فليهدأ حكمك عليها وسوف تهدأ هي بدورها، ولن تراك تسعى اليها بعدُ ولا تتجنّبها. -اوريليوس.
الفكرة الثانية من (مومنتو موري) هي أننا نموت تدريجيا، بعد كل مرحلة من حياتنا، بل بعد كل يوم، هكذا كان يصف أوريليوس الموت، وقد لا تستغرب -قارئ السطور الحبيب- أنّي استغل أي فرصة حتى أبثّكَ شعرًا، فجدّنا أمرؤ القيس قال
فلو أنّها نفسٌ تموتُ جميعةً … ولكنّها نفسٌ تَساقطُ أنفسا
هذا عين ما يتحدّث عنه أوريليوس، إنّك لا تموت مرّة واحدة، تموت على مرّات، بالمناسبة، امرؤ القيس قال هذه القصيدة ( ألمّا على الربع القديم بعسعسا) قبل أن يموت بالمرض الغامض الذي سبّب له القروح والحُمّى، بعيدا عن قصّة الحُلّة المسمومة التي يفنّدها العقل وعدد من علماء العربية، إنّي لا استبعد أنّه أصيب بالطاعون نفسه بسبب رحلته الى اراضي الروم في وقت تفشّي الوباء!
وفي مثل هذا يقول الأمام الحسن البصري: يا ابن آدم انما انت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك.
ماهي الأشياء تحت سيطرتنا؟
نحن الأن نعيش حالة تفشّي فايروس كورونا، ما هي الأشياء التي تُساعدنا في هذه الظروف؟ حسنًا، طبّق: ((إنّك ميتٌ وإنّهم ميتّون)) أولًا، لن تعرف الأشياء القيّمة في حياتك بدونها، أنت ستموت، إن لم يكن بالإلتهاب الرئوي الحاد فضعيفا على فِراش الهرم بعد سنين، أحبابك أيضا.
ومن ثمَّ ركزّ فيما تحت سيطرتك. كان سينيكا – وهو رواقي أخر- ينصح صديقه لوسيليوس بالإبتعاد عن التجمّعات الكبيرة، كانت حكمته أنّك يجب ان تُقلل إختلاطك بالجماعات لأنّك لا تعرف نواياهم، وأيضا، إنّهم قد يُحببونك السيئات، فالجماعة تحكم، والمرء يميلُ لإتبّاعهم ومراضاتهم. ربما عليك تطبيق نصيحة سينيكا بشكلها الحرفي حاليا، أن تتجنّب التجمعات في هذا الوقت، إبقَ في بيتك، هذه هي الفضيلة التي تُستطيع أن تقدّمها لنفسك وللبشر من حولك.
أنت تقرأ مقالتي هذه وأنت في بلد لا يتحمّل ان تمتلئ المشافي بالمرضى، هناك عدد محدود من وحدات العناية المركزة في بُلداننا، بل في أكثر البلدان تطورًا، ما نهدف اليه هو تقليل عدد الإصابات في وقت واحد، كُلّما تراكمت الإصابات، كُلّما قلّت وحدات العناية المركزة التي تُسعف الكبار أو من يتاثرون كثيرا بالمرض، وقد لا يجد من تُحب جهازا لمساعدته على التنفس في أوج حاجته، سيستطيع جسمه أن يقضي على الفايروس، لكنّه يحتاج الى وقت إضافي لمقاتلة المرض يوفّره له جهاز التنفس الإصطناعي، وبعد كل هذا، تراكم المرضى يُعرّض الطاقم الصحي المُعالج للعدوى، سيحتاج هؤلاء الى وقت للراحة والتعافي، من سيحلُّ مكانهم؟
شيء آخر، لا تُساهم بنشر الإشاعات والخرافات، لا تكن سامريًا، وإحذر لنفسك من أن تصدّقها، تابع الأخبار، لأجل أن تُعلمك بالحقائق، هذا كافٍ، لكن إحذر ان تتلقى ماهو أكثر منها.
هل صنعتُ شيئا ما من أجل الصالح العام؟ إذن فقد تلقَّيتُ أجري. لتكن هذه دائما قناعتُك، ولا تكفَّ أبدًا عن صنع الخير. -ماركوس أوريليوس