أحبُّ الشعرَ، لهذا أنشأتُ له قسمًا خاصًا في مدوّنتي، أنوي أن أملي فيه ما ينفع. لفترة طويلة من حياتي كُنت أُنشد الأشعار تداويًا. لكنّي أصبحتُ أنازعُ أمرين في الآونة الأخيرة، أصبحت أنتبه الى الشعراء وتعبيراتهم البليغة التي تدخل القلبَ وتأسره، فوجدّتهم يُزيّدون همّهم بأنفسهم، يُذكون نار الجوى بكلماتهم المعسولة، كان هذا مُمتعا لفترة طويلة من حياتي، حتّى تنبّهت الى أثره الخطير عليَّ، شكوى الشعراء تلك تسرّبت لحياتي،خالطت العقلانية التي كنتُ أتحلّى بها، كما خالط العرب العجم بعد الفُتوحات، فوهنت لُغتهم، وضعفت بلاغتهم. شكوى الشعراء مُضرّة، فهم يذكرونها عند الوقوف على الطلل، عند هبوب الرياح وشوم الغيوم وسقوط المطر، في هجير الشمس وفي ضوء القمر، حتّى عند إشداد المعركة ونزال سيوف العِدا! الرجل الحكيم ينتبه لرزيّته، يقرُّ بها، لكنّه لا يزيدُ عليها من نفسّه.
فَما طَلَعَ النَجمُ الَّذي يُهتَدى بِهِ وَلا الصُبحُ إِلّا هَيَّجا ذِكرَها لِيا
كنت قد قرأتُ كتابا عظيما أسمه (How To Think Like A Roman Emperor) خِلال عطلة الحجر المنزلي هذه، سُعدّتُ جدًا أن كتابا ما لا يزال قادرًا على تغييري. تشبعّتُ بمفاهيم الرواقية العملية، خصوصًا تلك التي تخصُّ الأمبراطور الروماني الصالح ماركوس أوريليوس، غفر الله له، وسيرة حياة هذا الرجل أهلٌ لذلك.
ثمَّ قرأتُ كتابا أخرًا، (تذّكرتُ ليلى) للأستاذ محمد يوسف رشيد، يشرح مؤنسة قيس بني عامر، ذلك الذي أحبَّ ليلى فجُنَّ بها. ذلك المجنون المُبتلى، بعد كل ما لاقاه من الإبتلاءات، سيدخل عليه حمزة متسلّحا بأفكار ماركوس أوريليوس، وهو أعزل، علّه يدافع بحبِّه لِليلى، إن كان قادرًا!
فلو أن واشٍ باليمامة داره وداري بأعلى حضرموت أهتدى ليا
كان المجنون يقول أن الوِشاة ولو كانت دارهم في اليمامة يُهتدون اليه حتّى لو كانت داره في حضرموت. كأن عليه أن يذكرَّ العُذالَ أيضا، فداري عنه بعيد، فوصلت إليه متتبعًا شعره، للأمانة، لقد حذرني وطالبني بالإبتعاد عند الباب فقال : بيَّ اليأسُ أو داء الهيام أصابني … فإيّاك عنّي، لا يكن بكَ ما بيا!
كان الروّاقيون أعداءً للّغة المُنمّقة، تلك التي تُملأ بالمشاعر. كانوا يُريدون أن يكتبوا بلغة سهلة واضحة، فالكتابة بوضوح سهلة على المتلقّي، وسيسهل بذلك إقناعه بالأفكار الجيدة، وفوق كل هذا، الكتابة الواضحة المعتدلة التي تصفُ الأحداث بدقّة تفيد الإنسان نفسه، لا تجعله ضحيّة لأحكامه البعيدة عن الواقع، هذا أيضًا أساس في الطب النفسي الحديث يُسمّى Decatastrophizing، أي أن تُفتّت الحدث الى مُكوّناته، حتّى يهدأ حكمك على الأشياء، مثل الطفل الذي يكسر لعبته الجميلة، يُعيدها الى مكوّناتها من القطع والأزرار، هل كان هذا ما يؤنسني؟
فلهذا، بدلا من أن تقول : ” لقد تعرّضتُ للخيانة، لحاه الله من خائن، لقد تركتني الحياة بلا سند ولا مُعين. أنا مُحطّم”
هذه الجملة سهلة يسيرة، قد تُفنّد بعقلانية، لكن إذا إرتدت حُلّة بلاغية، كتلك التي يستخدمها الشعراء، ستكون مؤنسة للنفس، تسمو الى أعماقها بلا وعي، فتصيرُ جزءًا من طبعها من غير أن تشعر.
تحثّك الرواقية على أن تصف الأحداث بدقّة، بلغة واضحة معتدلة، ولا تضفّي عليها أحكامًا خاصة من عندك. فتقول صوابًا: ( لقد قام فلان بفعلة، قام بكذا وبكذا، أنا لا أدري نيّته ولن أحكم عليها، أعرف أن هذا العمل سيء، لكنّه لن يؤذي شخصيتي، إلّا اذا سمحتُ له بذلك باحكامي، شخصيته فقط هي التي ستتأثر بهذا العمل)
هذا الأسلوب يأتي جزءً من صورة أكبر، تلك التي تُشكل اساسًا للفلسفة الرواقية، ويُمكن تلخيصها بجملة (أزل الحكم، يزول الأذى) وهي أساس للطب النفسي الحديث، يُسمى بالتباعد المعرفي (Cognitive Distancing) فالأشياء الخارجية خاملة، لا تضرّ العقل، إنمّا العقل يفعل هذا بنفسه، بتصديره الأحكام على الواقع كما يبيّن ماركوس أوريليوس مرات عديدة في التأمّلات
إن المحبَّ ترتبط عنده الأحداث بالمعاني، إنه لا ينظر الى الأمور من حيث نفسها، وإنمّا ينظر إليها بعينه هو، ومن حيث المعاني التي يعيشها هو، ويشد الأحداث شدًّا وثيقا بالعلاقات التي تربط بينها وبين تلك المعاني التي تسيطر على نفسه! هذه قاعدة لفهم الشعر. -الأستاذ محمد يوسف رشيد، تذكرّتُ ليلى.
يجادل سقراط في الفصل الثالث من كتاب الجمهورية أن الأبطال في الملاحم الشعرية الاغريقية غالبا ما يقدمون نموذجًا سيّئًا للناس، لأنّهم يُكثرون من وصف حظّهم السيء، وكيف أنَّ الدنيا لا تُنصفهم. يقول سقراط أن الرجل الحكيم لا يعتبر الموت شيئًا كارثيا، حتى لو كان موت احد اصدقاءه، الرجل الحكيم لن يبكي بشدّة على فقد أحد أحبابه، كما فعل أخيل على سبيل المثال، الرجل الحكيم مكتفٍ بذاته، وهو أقل الاشخاص أعتمادا على الاخرين، فلو خسر أبنه، أخاه أو ممتلكاته، سيبدو هذا الامر أقل مأساوية للحكيم من الرجل العادي، لذلك كما يقول سقراط فالحكيم سيعطي وقتًا قليلا للرثاء، ويتحمّل الرزية بشكل أهدأ من الباقين، لكنّه لا يقول أنّه لا يجب ان يحزن أبدا.
يقول سقراط أن التدريب في الفلسفة يمكن أن يساهم بالثبات العاطفي، فيكون الفاقد أقل تأثّرًا بالفقد، سيتحمّل هذا الهمّ أكثر من الباقين، لكنّه سيشعر به لا محالة. الفكرة في ترك الحزن يأخذ مجراه الطبيعي، من دون إضافات تُزيد من بلاء المُبتلى!
لو عاش سقراط الى عهد الدولة الأموية، ورأى ما فعله قيس بن الملوّح بنفسه جرّاء عشقه لِليلى، التي لم تَمت وإنمّا تزوجت غيره، لإستحى أن يذكر أخيل.
كان المجنون يحب ليلى منذ صغرها، حتّى إذا أراد ان يتزوجها منعها عنه أبوها، ثم منعوه عن زيارتها وأهدر الحاكم دمه إن زارها، ثم ترّحل أهلها من جوارهم الى الجنوب وتزوّجت غيره، فأصبح في هذه الظروف هائمًا مشوقًا، يذكر في شعره أنّه يحب كل شيء من جهة الجنوب، من جهة ليلى، حتّى أنه من شِدّة عشقه لها لم يكن يحفل بشخص زوجها أو أسمه، فمصيبته هي فِراق ليلى، وما يترتّب على ذلك نتائج فقط.
يَقولُ أُناسٌ عَلَّ مَجنونَ عامِرٍ يَرومُ سُلوّاً قُلتُ أَنّى لِما بِيا
لحى اللَهُ أَقواماً يَقولونَ إِنَّنا وَجَدنا طَوالَ الدَهرِ لِلحُبِّ شافِيا
من هذه الأمثلة يتلخّص لك أنّه ينزعج كل إنزعاج من أن الناس تتهمّه بشفاء حبّه من ليلى وسلوّه عنها، لقد صيّر بذلك حُبّها هوية له، وكما نعرف إن الشيء إذا صار جزءً من الهوية، صار عادة وصعُب التخلّص منه.
خَليلَيَّ إِن لا تَبكِيانِيَ أَلتَمِس خَليلاً إِذا أَنزَفتُ دَمعي بَكى لِيا
إذا لم تبكيا لأجل حالتي يا خليليّ فأني ساجدُ خليلا غيركما، إذا نفدت دموع عيني، بكى هو لي، فكان مؤنسا مسليّا لي.
يقول ابكتيتوس اننا عندما نرى صديقا على الطريق ينحب، يجب ان نواسيه ونهوّن عليه، لكنّ لا يجب ان نجعل سبب بكاءه (والذي نتج من أحكام خاطئة له على الواقع) يتسرّب الينا. لان الرجل الحكيم قد يرى نفس الكارثة كشيء لا فارق، بل يراها فُرصة لتطبيق الحكمة وأظهار الفضيلة بالصبر والسُلوّ تارة، وتمرين العقل على التحكم في أحكامه تارة أخرى.
خَليلَيَّ لَيلى أَكبَرُ الحاجِ وَالمُنى فَمَن لي بِلَيلى أَو فَمَن ذا لَها بِيا
الشعر العربي عظيم، هو الطريق المختصر لبيان عظمة اللغة، تلك اللغة التي نزل بها القرآن، وصرّح بالنص (بلسان عربي مبين) فالقرآن نزل بلغة العرب، ليس بحروفهم فقط، بل بالمعاني والأساليب التي كانت متداولة بينهم، وهو على هذا مُعجز. عرب الصحراء قد عرفوا بلاغة القرآن فعظّموه، ثم خشعت قلوبهم عند تلاوته، فظهرت لنا التلاوات والتجاويد الخاشعة. أمّا نحن الآن، فتوارثنا عنهم هذا الخشوع في التجويد والتلاوة، من غير أن نعرف أسبابه، ولا سبيل الى معرفة ذلك إلّأ بدراسة البيان العربي، وخير ما يمثّله هو الشعر القديم.
رغم هذا، فأمر الشعر خطير، إذا تسلّلت شكوى الشعراء الى النفس، تصيرُ طبعا مُحكما. وبصراحة، هذه الشكوى لذيذة خفيفة على النفس، تُحرّك فيها ما تُحرّك، لا أحد يحب أن يشاهد من يتعامل بحكمة مع أحداث حياته البائسة، الدراما تجذب الأسماع والأبصار، ويظنُّ الفرد أن أسلوب معالجة مجنون بني عامر لأحداث حياته هو التصرّف الصحيح، لا أحبُّ التنظير، ولا أكتب التدوينات كمن يتقيّء ما قرأه بصياغة مختلفة، وخيرُ أسانيد المرء تجاربه!
فَأَنتِ الَّتي إِن شِئتِ أَشقَيتِ عِيشَتي وَأَنتِ الَّتي إِن شِئتِ أَنعَمتِ بالِيا
أمر أخر يجبر الشعراء على الشكوى البليغة البعيدة عن الواقع، وهي أن بعض أبواب الشعر تُجبرهم على ذلك، في بعض الأحيان، حتّى يكون بيانك عاليا، يجب أن تُبالغ، لا يكفي أن تذكر الصورة العادية، وأنبّه هنا، أن هذا ليس صحيحا دائما، هناك أحوال شعرية لا يصحُ فيها إلّا ذكر الواقع المعقول، سأوضّح بمثالين ما قد تشابه عليك
المتنبي يقول في قصيدته له:
كفى بنفسي نحولًا أنّني رجلٌ لولا مخاطبتي إياك لم تَرني
أبو الطيب بالغ في هذا حتى أفسد، فهو يقول أن جسمي ضعيف نحيل، لا تراني إلّا اذا ما خاطبتك. كقارئ تخيّلتُه نملة، لقد سفّه جنبه بنفسه. فلو ذكر حالة أخرى أقل مبالغة من جسم النملة هذا، لكأن أرفع. هذا مثال على المبالغة التي لا يُريدها الشعر العالي.
أما تلك التي يُجبرك عليها الشعر، فمثل قول مجنون ليلى:
وَأَنتِ الَّتي ما مِن صَديقٍ وَلا عِداً يَرى نِضوَ ما أَبقَيتِ إِلّا رَثى لِيا
يقول بسببك يا ليلى، إذا رأى الصديق والعدو هذا الجزء البالي الذي ابقيتِه منّي، سيرثيني ويبكي لحالي. هذه من المُبالغة الحسنة، فلو ذكر الصديق فقط، لكان البيتُ باهتًا، بالطبع سيرثي حالك الصديق، هذا حريٌ بالأصدقاء، لكن ذكر العدو هو ما يبحث عنه المجنون في هذا البيت، وهو ما يرفع الشعر.
وفي مثل هذا يقول أيضا:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبثّه .. جماعة اعدائي بكت لي عيونها
بالطبع للمجنون أعداء، وقد وصلت به حالة الجنون بليلى أن رثاه كثير من الناس، لكنّ أن يصل لذلك أعداءه؟. هذا يذكرني ببيت لبدر الدريع في رثائيته:
ومثلي من يأسى لموت عدوِّه فكيفَ وبعضي في التراب يزولُ
يذكر بدر خالَه المتوّفى، فيقول اذا كنت آسى لموت العدو، فكيف وخالي الذي هو بعضي أراه في التراب ولا افعل شيئا؟ كنت أحفل بهذا البيت جدًا، حتّى نبّهني أحد الأحبّة أن بدرًا قد بالغ، من منّا يأسى لموت العدو؟ قد لا يفرح من يتحلّى بالحكمة لموت أعداءه، لكنّه لا يأسى. هذا لا يحطُّ من بيت بدر، فهو مؤثر عال. لكنّه مثير للشجن، بطريقة لا يحبّذها الرواقيون.
يقول أبكتيتوس أن الرواقي يحبُّ، لا سبيل له غير ذلك، لكنّ حبّه يجب أن يكون موافقا للطبيعة، موافقا للمبادئ التي تسير عليها الحياة، فإن شعر بودِ أحدهم، فيذكّر نفسه أنه سيفقده يومًا ما، إن لم يكن بالموت فبغيره من البين والفراق. ربما هذا الذي دفعه لأن يقول: (إذا قبّلت زوجتك أو طفلك، ذكّر نفسك دائما، أنّي أقبّل بشرًا لا يملك الخلود)
ليس الأمر كئيبا، بل هو عين العقل، أنت لا تتحكم بالأمور الخارجية، لا تتحكم بالموت. خصوصا لشخص عاش في العهد الروماني القديم، حيث كانت الأمراض تفتك بالناس، لم يكن الكثير من الأطفال يعيشون، تذكير النفس بهذا والإستعداد لحدث كهذا لا ينبغي ان يغيب عن بال الحكيم.
حتى لا أُثقل اللوم على مجنون ليلى، وجدته يحاول محاولة عقلانية مثل هذه في إحدى قصائده فيقول:
وحدّثتُ نفسي بالفِراق اروّضها فقالت: رويدك! لا اغُرّكَ من صبري
فقلت لها فالهجر والبينُ واحدٌ فقالت أأُمنى بالفراق وبالهجرِ؟
يقول أنّه في مرة من المرات حدّث نفسه بالفراق، حتى يروّضها فتستعد لليوم الموعود، فقالت لي لا تغُر بصبري على كلامك، فأخبرتها ان الهجر مني لليلى، أو فراقها لي هو أمر واحد، وأنا أتحسس حدوثه، فلماذا تتمنعين؟ فقالت له نفسه: هل تريدني أن أُصاب بالفراق والهجر معاً؟ دعها تفارقني هي. لن أهجرها أنا.
ستقول بتلذّذ: الله! وإذا قلتَ هذا، أنصحكَ بإعادة المقال وإلّا كانت نهايتك مثله. لقد خدعك (كما خدعني سابقا) بالبلاغة المعسولة!