عِمتَ مساءً، أتكلّم اليوم عن موضوع المكانة، وقلق السعي لها، والتدوينة تدينُ بأفكارها لكتاب آلان دي بوتون، قلق السعي إلى المكانة، وأضيف عليها سطورًا مهمّة تعلّمتها سابقًا عن أهمّية المكانة في حياة الإنسان القديم، وعن نوع آخر من المكانة الزائفة.
وإنّي أشكرُ السيّد دي بوتون، على بعثه نار التفكّر في عقل طالما تعوّد أن يُعامل ما يقرأه بتبلّد. وقد تصفّحت ترجمة الكتاب العربية، فلم تجذبني إليها، فأسلوب دي بوتون أفضل مع النسخة الإنكليزية، وقرأتها مصحوبة بصوت سيمون فانس، قارئ بلكنة بريطانية دافئة، فكان الكتاب مُمتعًا.
موضوع اليوم قد شغف قلب كاتبه، فخيوطه تتنقّل بين العلوم، التاريخ، الدين، الرواقية، الفن، الشعر ومن ثمَّ العادات، وهذا سرٌ في نشري له، فآخرُ ما أريده هو وضع شيء مكرّر، ملَّته الأسماع، ولفظته الأفئدة. ولا جديد في أن أقول لك أنّي سأطيل، أتمنّى أن لا تُبدي امتعاضًا من هذه المعلومة، وإلّا فلن تكون القارئ الذي أبحثُ عنه!
المكانة
يعاني مفهوم المكانة من فهمٍ ناقص، يُنظر له بعين الاستهجان غالبًا، ويأبى أن يعترف المرء منّا أنّه يبحث عن المكانة، لأنّ المكانة ترتبط في الأذهان بمعاني التباهي، والاستعلاء على الناس، وليس هذا إلّا معنى سطحي منها، الرغبة في المكانة عند البشر سلوك بايولوجي تلقائي، مرزوع في فطرتهم، وهذا يعني أنّك لا تستطيع ايقافه، وكل ما تستطيع فعله يحوم حول الدوائر الخارجية من هذه المكانة، كأنّ تُوليّها وجهة فيها خير وصلاح، وتُقلّل من القلق في سبيل الحصول عليها.
كل ما تفعله في حياتك، لا يخرج عن الرغبة في الحصول على المكانة، شكل مقبول، وظيفة جيّدة، مال وفير، نساء وبنين، أو حتّى تفوّق ديني وأخلاقي. رغبات البشر لا تخرج عن هذه الأمور، أولم يُزين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة؟ وما نختلف فيه، هو ترتيب هذه الأولويات بالنسبة لنا، لكنّنا نتشابه أنّنا نريد أعلى مكان في كل هذه النطاقات، فإن وصلنا عليه فشعور نصر ورضا، وإن لم نصل، فقلق وخوف وشكوك.
الرغبة في الحصول على المكانة أهم عند البشر من رغبة الطعام والتناسل، فبدونها لن تحصل عليهما، ووجود عدّاد المكانة هذا في عقلك، والذي يتحّكم به هورمون السيروتونين، مهمٌ جدًا لحياتك. ففي الحيوانات، الشعور الدقيق بمستوى المكانة بين القطيع مهم جدًا، فهو سيمنع ذلك الحيوان من أن يسعى لينال طعامًا أو أنثى في وجود من منافس أقوى منه، لأنَّ هذا سيجنبّه مواجهة خاسرة، قد تُودي بحياته، والأهم، تمنعه من تمرير جيناته.
حتّى عند البشر، كميّة السيروتونين تساهم بالحفاظ على الحياة، إنّي أتذكر وأنا أكتبُ هذه الكلمات، بيتًا قاله جدّي وحبيبي أوس بن حجر، وهو يهرب من معركة، تجمّعت فيها بنو عبس وأحلافها لقتال قومه، يبدو أنّ عداد المكانة أنبأه أنها معركة قد تُودي بهلاكه! فقال:
وليس يُعاب المرء من جُبن يومِه … وقد عُرفتَ منه الشجاعةُ بالأمسِ
تطور قلق المكانة
عندما كُنّا صغارًا، لم يكن حُبّ الناس لنا مشروطًا، فوجودنا يكفي لجعلهم يغمرونا بودِّهم، وترى كل المحادثات تدور حولك، حتّى لو لم تملك الفطنة والمهارة التي تجعلك تستحق هذا الحب، أمّا عندما تكبر، لن تجد هذا المعنى من الحب غير المشروط، إلّا في عيون والديك، أمّا هذا الناس، فأصبح ينظر إلى طبقات المكانة التي تملكها، ثمَّ يُقرّر يستثمر فيك ودّه أم لا.
لو كُنتَ تعيش في بغداد، سنة 170 هجرية، حيث كان هارون الرشيد خليفة للمسلمين آنذاك، وأنت فقير مُعدم، بالكاد يكفيك قوت يومك، وترى الخليفة يسير في الشوارع تحفّه الحرس والخدم والحشم، لا أظنّك تشعر بالغيرة من هذا المنظر، ولن تسعى لأن تحصل على مثل ذلك، فهذا الخليفة، وله دماء هاشمية قُرشية نبيلة، وأنت قبيلتك ليس لها نفس الباع في هذا الميدان.
الطبقة الفقيرة في العصور القديمة، لم تكن تعاني من قلق المكانة كما نعاني منها اليوم، فرغم أنّها أشقى وأعدم من الطبقة الفقيرة حاليًا، لكنّ همَّ الثراء لم يكن يُسهّدها كما يفعل مع الكثير اليوم، فهناك من الأفكار التي كانت تساهم بذلك الرضا، منها ما ذكرته من عوامل الدماء النبيلة، والقبيلة العريقة، فكانت فكرة المجد والثراء لا تراود الكثير من الناس، إلّا لو كان قرشيًا هاشميًا عباسيًا قريبًا من الخليفة، كنسب صاحبكم!
ومن الأمور التي كانت تُعين على ذلك، الأفكار الدينية التي تُحبّب القناعة، فالذي وُلد فقيرًا، قضى عليه قضاء الله بذلك، وكل عمل هو عمل شريف يساعد المجتمع، وهذا ساعد حتّى الأغنياء على تقدير دور الفقراء في الاقتصاد، فكان تُشاع أفكار، منها أنّ المجتمع كالجسد، أغنيائهم الرأس، وفقرائهم الأقدام التي تجعله يسير. فكان الفقير مُعدمًا من المال فقط، ولم يكن مُعدمًا من الأخلاق والمعاني السامية
لكنّ ماذا لو رأيت بيل غيتس اليوم، وهو يرتدي بيجامة قد ترتديها أنت، لديه كراج، ولدينا كراج، لديه همّة، ولديّ مثلها، حتّى نظارته تشبه نظارتي. إذن لماذا لا أصبح مثله؟
هذا الذي حدث بعد أن انتهى عصر الدماء النبيلة، وأصبح مقياس التفوّق والثراء هو ما يُظهره الفرد من مواهب وإبداع، وهذا بلا شك أمرّ عظيم، فأنت الذي تصنع مجدك، لا نطف أجدادك، لكنّ لهذه الميروقراطية (الثراء بالمواهب) جوانب مظلمة أيضًا، فلو نال الغني غناه بمجهوده، ولم تعنه عوامل خارج قدرته، كتوفيق الله، أو نُبل دمه، فهذا يعني أنَّ الفقير قد تسبّب بذلك لنفسه، بسبب تقاعسه عن العمل، وعدم امتلاكه لمواهب، وقد يُوحي هذا أنّ الفقير يستحقّ هذا الحال الذي يكون فيه اليوم.
قد تكون الغيرة من بيل غيتس بعيدة، لكنّها أقرب عندما ترى شخصًا من نفس عمرك وظروفك، ربما ارتاد معك المدرسة نفسها، لكنّه أكثر تفوقًا الآن، هنا يزداد قلق المكانة، ويزيد هذا الهمّ شكوكك. فانا مثلا، قد لا احسد أسلوب كتابة عظماء كمحمود شاكر أو طه حسين، لكنّي قد أشعر بالقلق من وجود شاب عنده عشرين سنة، يكتب بطريقة أكثر أناقة منّي، وإنّي أقمتُ الفكرَ دهرًا فلم أجد، فلأقرَّ عينًا!
قلتُ أنَّ أخطر ما في الميروقراطية، أنّها قد تجعل الذي في القاع، بعين نفسه وبعين غيره، مُستحقًا لما هو فيه، وهذا تجلّى بما كانت تفعله الدارونية الاجتماعية، من حثّها الحكومات على عدم مساعدة الفقراء، لأنّهم -وكما يقولون- يستحقّون الذي يكونون فيه، فلا نريد أنّ نزيد على المجتمع ذرية منهم، فلنتركهم يموتون، كما يحصل مع الحيوانات الضعيفة، فهذا صلاح للنوع والمجتمع!
حلول لقلق المكانة
سأعرض لبعض الحلول التي عرضها الكاتب، وأغمض الطرف عن أخرى، وجدتُها حشوًا وسردًا تأريخيًا أكثر من مادة عملية تُطبَّق، وأضع بعضًا ممّا تعلّمته في حياتي، ويجدر التنويه أنَّ هذه الحلول لا تهدف إلى قتل سعيك للمكانة، حتى لا تستخدمها حُججًا للتسويف والقعود، لكنّها تهدف إلى توجيهك إلى المكانة التي تستحقُّ أن تتجّه إليها، وتُقلّل بعض القلق عندما تسير في طريق السعي نحوها.
أ- الفلسفة
كتبتُ الكثير من المقالات في الفلسفة الرواقية، ولو أطّلعتَ عليها لسهّلت المهمّة عليَّ، لكنّي سأشرح شيئًا مقتضبًا، فهذه فرصة لمراجعة تلك المفاهيم المفيدة.
إنَّ ما يجعلني غنيًا بين الناس، ليس مركزي بينهم، إنمّا أحكامي التي أحملها معي، لأنّها الشيء الوحيد الذي أملكه، ولا يستطيع أن يأخذه أحد. أبكتيتوس، فيلسوف رواقي.
في الفلسفة الرواقية تُوجد فكرة محورية، وهي أنّنا نرى الواقع بعدسة تضعها لنا أحكامنا، ولأنّنا لا نستطيع التحكم في الواقع عادة، فالتركيز على الأحكام هو الشيء الوحيد الذي نستطيع إتقانه. للأمانة، كابدتُ عناءً حتّى هضمتُ وطبّقت الفكرة، وما أعانني عليها، أنّي تعلّمتُ كيف تُطبّق بشكل عملي في الرغبة، الألم والغضب. وكتبتُ في كلِّ ذلك مقالًا مفصّلًا.
عندما تُركّز على أحكامك، وتحاول أن تجعلها مُتّزنة، فأنتَ تُحكم العقل والمنطق، وهذا هو مُراد الرواقية الأخير، فالمشاعر عندنا تميلُ إلى أن تجعلنا ننغمس في رغبات ضارّة، أو غضب لا يُسيطر عليه، أو قلق في سبيل الحصول على مكانات لا نريدها، أكثر من قدرتها على إدارتنا لفعل الأشياء الصحيحة، وآلة المنطق عندنا يجب أن تكون جاهزة لتقودها إلى الغايات الصائبة.
هل ترغب في أن يمدَحَك إنسانٌ يلعن نفسَه ثلاثَ مراتٍ كل ساعة؟ هل تود أن تُرضِي إنسانًا لا يستطيع أن يرضى عن نفسه؟ وهل يمكن أن يرضى عن نفسه من يَندَم على كل شيءٍ يفعله؟ -ماركوس أوريليوس.
ب- الفن
يساهم الفن أيضًا بتقديم نظرة للناس عمّا يهمُّ فعلًا في هذه الحياة، ويرينا العالم من زاوية أخرى، زاوية تُبرِّز المهم في هذه الحياة، فكثيرة هي الروايات التي تُركّز على فكرة أن الأخلاق لا ترتبط بالمال، أو المركز الاجتماعي، وهي بمثابة احتجاج على نظرة المجتمع حول الصالح والطالح نسبة إلى ما يملكونه من الثروة.
واللوحات المرسومة ينطبق عليها نفس الحال، لو اطلعت على لوحات توماس جونز، ستراه مهووسًا بإبراز المعالم العادية في مدينة نابولي، سطوحها وجدرانها وأبوابها، فلوحة مثل أسطح نابولي، والتي وضعتها غلافًا لمقالي، لا ترى فيها واجهات بنايات فاخرة، أو كنائس مزخرفة، فالرسمة تركت ذلك كلّه، وأبرزت جمال البنايات البسيطة، فيعمل الفنّ على متذوّقيه بهذه الطريقة: في المرّة القادمة، عندما ترى مبنى قديمًا، لن تحكم عليه وعلى سكانه بالبؤس، ستتذكّر جمال أسطح نابولي!
دائمًا ما أُبدي امتعاضي من مشاهدة أخي الصغير لفيديوات يوتيوب، وهو يشاهد هناك تلك العوائل الغنيّة، التي لا شُغل لها في حياتها إلّا عرض رفاهيتهم ورفاهية أبنائهم بما يملكونه من الأدوات واللُعَب، لا أدري كيف يجعلون تلك الفيديوات مُمتعة، وأنا لا أريدُ سلبَ المُتعة منه -كما يعترض مرارًا- بيدَ أنّي أحثّه على مشاهدة الكارتون العادي الذي تربّينا عليه في التلفاز، فهو يزخر بهذه المعاني السامية، والتي قد تُعدّه لتجنّب شيء ما من قلق المكانة هذا، فكثرة الألعاب التي تملكها، لا تدلُّ على سعادتك. بالطبع لم أكن أفكّر هكذا قبل الكتاب، لكنّ من الجيد أن تملك سببًا فاخرًا كهذا للاضطهاد الالكتروني، تُلقيه في الجلسات العائلية، ذلك اليوم شاهدنا معًا كارتون كايو، وتعلّمتُ -أنا- أن أشتري الأحذية التي أحتاجها فقط.
ويجدرُ أن أُنبّه لشيء هنا، إذا كان الفنُّ بوسعه أن يُحبّب لك الرضا بالمكانة، والاستمتاع بالحياة التي تملك، أو يجعلك أكثر تواضعًا بتذكّر مخالب الموت، فهو أيضًا قادر على أن يُغويك بأمور لا تنسجم مع الإنسان السوي، ولعلّك تعرف ما تفعله السينمات الحديثة من الترويج للأفكار الضالّة، والحث على التعاطف مع الضُلّال، بدلًا من محاولة اعادتهم إلى الصواب!
ج- حب النفس
ربما هذه الفكرة قد بهُتَت هذه الفكرة بفعل دجل التنمية البشرية، لكنّها فكرة مهمة، فمن الأمور التي تقلّل قلق المكانة، هي أن تُحب نفسك ما دُمتَ تسير في طريق صحيح، حتّى لو لم تملك المكانة، فأنت بعين نفسك، تستحق حُبًا غير مشروط، حتّى وإن شرطَ الناس حُبّهم لك، لأنّك لو ربطتَ حُبّك لنفسك بما تحصل عليه من المكانة، سيأتي يوم -بل أيّام- تشعرُ فيها أنّك تخسر نقاطًا من المكانة، هنا قد تكره نفسك، وليس هذه المشكلة، المشكلة في ارتباط هذا الكره بشعورك أنّ نفسك لا تستحق التضحية، لا تستحق أن تجاهد نفسك حتّى تخصّص لها وقتًا تستغلّه في أعمال مفيدة، فتترك كل هذا، وتُقاد إلى جلسات طويلة على مكانات زائفة، كشعورك: تبًا، لم أكن جيدًا اليوم، لنشاهد نتفلكس!
د-اختر مكانات محدّدة
أنتَ لم تُولد لتكون على هرم كل شيء، هذا أصلًا غير ممكن، لذلك يجب أن تختار بعناية المكانة التي تريدها، ومن ثمَّ توجِّه طاقاتك نحوها، لأنّ عينك إذا ركّزت على شيء، يجب أن تسمح للباقي أن يضمحل في الخلفية، وإلّا ظللتَ مُشتتًا لا تستطيع فهم أي شيء حولك. من أوّل المقالات التي كتبتها في المدونة كان هذا المقال ( قانون بيترسون الرابع ) وفيه بيّنت أهمّية أن تركّز على أشياء محدودة وتترك الباقي لبقية الناس!
في الفترة الأخيرة، صرتُ ألعب كرة القدم مع أصدقاء في حيِّنا، ومعظم من ألعب معهم، كانوا أو لا يزالون في أندية تُدرّبهم وتصقل من مهاراتهم الكروية، ورغم أنّي أكثرهم سرعة، وأكثرهم تحملًا على المستوى البدني، لكنّي أشعر بالضياع عندما ألعب معهم، فإحساس الملعب مفقود عندي، وكل هدف على فريقنا، يكون تمركز حمزة الخاطئ على أرضية الملعب سببًا فيه، أحاول أن أعوّض ذلك الفقر التكتيكي ببعض المُزاح، لكنّ لا أرى الله وضعي هناك كافرًا.
الفكرة أنّي أستطيع أن أُطوّر نفسي في احساس التمركز هذا، كأن أنضّم لنادٍ، أو أقضي ساعات إضافية أتدرّب على هذه الأمور، لكنّي لم أختر أن أنافس في هذه الحلقة، لم أُرد هذه المكانة، ليكونوا أفضل منّي، فهدفي من اللعب هو معرفة الناس، وصرف طاقة تلك الأرجل بشكل مُمتع أكثر من الركض وحيدًا، ولا بأس أن أكون الذي يُؤتى الفريق من قِبله!
هـ- الدين
لعلّ الدين أكبر ضابط للبشر، وأكثر ما يهدّئ من إحساس المكانة عندهم، فحكمة الخالق تعرف أنَّ البشر لا يتوقّفون عن السعي إلى ملذّات الدنيا، ورحمته أبت أن تتركهم قلقين في الحصول عليها من دون ضابط، والضابط هنا أنّك تسعى لتقوى الله ومرضاته، فعندما تكون عندك وُجهة، تعرف الطريق الذي ستسير فيه، حتّى لو لم تصل إلى نهاية الطريق، لكنّك تملك معك مُقوِّمًا ذاتيًا، يُخبرك أنّك انحرفت شيئًا من مسارك، فيبُدل قلق المكانة، إلى قلق مرضاة الله، وهذا القلق أسهلُ علاجًا، وأصلحُ غاية.
ذكر الموت أيضًا يُساهم في تقليل هذا القلق، ويُعين في تحديد المكانات التي تُريدها حقًا، فلو كنتَ تضع على بالك أنّك ميّتٌ، وأنَّ الموتَ خبط عشواء، يأخذ صغيرًا وكبيرًا، ستحاول أن تنال المكانات الصالحة، وتترك الكثير من المكانات التي لا تُرضي إلّا الناس. وليس شرطًا أن تذكر موتك فقط، ففي موت من حولك، خصوصًا من يكون لهم مُلك وسلطان، هزّة لك أن تُعيد تقييم أولويات مكاناتك، لهذا تجد القرآن الكريم يزخر بمعاني التفكِّر في هلاك الأقوام السابقة، وآثارهم البالية.
المكانة الزائفة
قلتُ أنّ حساب المكانة، مهم لحياة رجل الكهوف والقبائل، خصوصًا عندما يغيب العقل عن تهدئة الصراعات، لكنّا قد نٌخدع بمكانة من نوع آخر، وهي مكانة لا تفيد حتّى في الكهوف والصحاري، ولو تكلّمنا على المكانة الزائفة، فنعرّفها أنّها تلك المكانة التي لا تخدمك جيدًا، لكنّها تُلبي رغباتك على المدى القصير، تمامًا كما تفعل الوجبات السريعة، والشرط الثاني لهذه المكانة، حتّى نٌفرّقها عن الهمبرغر، هي أنّها تُشتّتك عن أخطار قريبة المدى.
من أكثر الأمثلة انطباقًا على هذه المكانة الزائفة في وقتنا الحالي، الهوس بالشهرة على مواقع التواصل، ألعاب الفيديو، ولم لا، المرئيات الجنسية.
وقد تكلّمت مُوسعًا في هذا المقال عن مواقع التواصل، وتحدّثت عن الطرق التي تستغلّ فيها تلك الشركات رغبة المكانة في داخلنا، وفي مثال ألعاب الفيديو، أنت تقضي وقتك محاولًا تطوير شخصيتك في اللعبة، وزيادة نقاطها، ممّا يُعطيك إحساسًا وقتيًا بالرضا عن المكانة، لكنّه رضى لا يتعدّى حدود البرنامج.
أما في مثال المرئيات الجنسية، فأنت مُحاط بكل هذه النسوة، وهن طوع إرادتك، فتظل تهدج إليها من بعيدٍ، فيشعر عقلك أنّه يحقق مكانة هو مخلوق لأجلها، مكانة الفحل الذي لا يُردُّ له طَلب، ولستَ تفعل هذا إلّا أمام شاشة، وهذه الأوهام لا تلبث إلّا أن تنتهي بعد هُنيّة، فتعود للواقع المؤلم الذي يدفعك للعودة إلى ذلك العالم الخيالي مرّة أخرى.
السيء في أمر هذه المكانة الزائفة، ليس في هذا فقط، بل بربط عقلك لها بالهروب من الواقع، والهروب من المسؤوليات، فأنت عندما تشعرُ بضغط ما، قلق أو ملل، وهذا ينتج من الاحساس الذي يُخبرك أنّك خسرت مكانة ما، ستهرب من محاولة معالجة هذا الشعور، بجلسات طويلة على هذه المواد، ويرتبط هذا في عقلك كدواء لهذه الأحاسيس، ففي المرّة القادمة، بدلًا من أن يُشعرك دماغك بهذه الأحاسيس السلبية، سيُغريك باستهلاك هذه المواد، فتفوّت فرصة معالجة المشاكل، مما يزيدها سوءا، ممّا يجعلك في دوّامة لا تنتهي من الاستهلاك. وقد تتحجّج أنّك خٌلقت لهذه الألعاب، أو أنّك شاب بُلي بالرغبات، وهذا ليس إلّا أنّك سوّفت معالجة السلبيات، حتى رُمِستَ تحت التراب.
خلِّني أستفيض أكثر في هذا المثال، لأنّي أتحسّس أنّ هذه أعظم عقبة تواجه رجال عصرنا الحديث، لأنّهم غُرّروا بمحفّز لم يواجه جيل سابق في التاريخ. فقد بيّنت أنَّ انخفاض المكانة يُولّد شعورًا بالقلق، عدم استغلال هذا القلق في التصرّف ومعالجة هذا الانخفاض بطريقة صحيحة، قد يدفع إلى حلِّ سهل مثل المرئيات الجنسية، ففيها تشعر الأجزاء العاطفية أنّها حققت أعلى مكانة يُمكن أن يصل إليها بشر، فحريمك أيها السلطان، في هذا الخيال، رهنك وطوعك، وإذا صادف وأن مَررتَ بفتاة جميلة يومًا في شارع، ومرّت هكذا من دون أن تُلقي نظرة عليك حتّى، ستشعر بشرخ في هذه المكانة، حتّى لو لم تشعر بذلك واعيًا، سيبقى يُزعجك شيء في هذا الموقف، فالسلطان لم يعد سلطانًا، وهذا يدفع تلك الأجزاء العاطفية – من دون أن تعي ذلك- إلى اشتهاء العودة إلى ذلك العالم الخيالي، حيثُ الزعيم، يعودُ مُملكًا!
وليس من عادتي أن أفتحُ مشكلة ولا أعرضُ الحل، لكنّ الحل هنا طويل، ويخرجُ ويشتُّ عن العنوان الذي أردت، وهو يتمثّل بالحديث الصادق مع النفس، لعلّنا نكتب في هذه الموضوعات مستقبلًا، والإشارة لخطر شيء، تكفي حرًا لبيبًا ليحاول هو، ويذلل العقبات في طريق، إلى طريق يسيرُ فيه.
إذا اقتنعتَ بالمشكلة الأخيرة وخطرها، وأكملت مقالي حتّى النهاية، فقلبي أطيب من أن أتركك تحاول وحدك، هذا رابط أشرحُ فيه تفصيلًا كيف يُمكن أن تتحدّث بصدق مع نفسك، حتّى تُبعدها عن المكانة الزائفة، وتقودها إلى مكانة أقوم وأصلح. والذي كتبته فصل من مسودّة من مشروع أعدّه للإطلاق على أحد المنصّات الرقمية، فاستغله مادامَ مجانيًا!