تخيّل أنّ الجسم مكون من ثلاث وحدات; المنطق، العاطفة، آلة التنفيذ. ولو استطعت أن تجعل أثنين يعملان معًا، ينقاد لهما الثالث طوعا، لعلّك تستحضر المرات التي لم تكن تشعر فيها أنّك تريد أن تدرس، لكنّك وضعت نفسك هنا، فبدات تحب العمل، أو على العكس، أحيانًا تبدو لك فكرة منطقية تمنعك من الانغماس في شيء ضار، لكنّ قلبك يريده، فما إن شرعت بالتنفيذ، تبعه عقلك المنطقي يُقيم له التبريرات. في هذه الأمثلة، جمعنا آلة التنفيذ مع المنطق، أو العاطفة. تستطيع أيضًأ أن تجمع العقل والمنطق، وتترك آلة التنفيذ تتبعهم، وهذا أصعب، لكنّه أقوم وأصلح.
في هذا المقال، أرسمُ صورة حول هذا التخيّل، وأسمّي الجزء المنطقي بالفطناء، وأسمّي العاطفي بالوحش، وقد نبّهني أحد الأحبة على لحن في العنوان، فقد قُلتُ فَطناء وكان حريٌ بي أن اقول فَطنة، لكنّي أردتُ ذلك لوزنها الذي يُقارب الحسناء، وهذا أحد الثيمات التي تعبّر عنها صورة المقال، فإذا قبلتَ منّي هذا اللحن، فهلمَ نُكمل الموضوع، وإنّي أعدك بُمتعة فيها شيء علمي يؤنسُك، وليس فيها لحنًا فاحشًا كالذي ارتكبته في العنوان!
الفطناء والوحش
لي حكمة من تسمية الأجزاء العاطفية بالوحش، ولا أعني بالأجزاء العاطفية تلك التي تخطر على بالك للوهلة الأولى من أنّها تخصّ الصبا والتصابي، فالأجزاء العاطفية تتمثّل بجهاز عريق في دماغك يسمّى Limbic System وفيه بُرمجت كل الأمور الأساسية لحياتك، هذا الوحش يشبه المحرّك الذي يبعث فيك طاقة هائلة، وهذه الطاقة هدفها أن تؤمِّن نجاتك، ونجاة جيناتك. ويتم هذا من خلال السيطرة على الكثير من الهورمونات التي تجري في الجسم.
فالوحش قد يرى وحشةً فاتنة، يخبره الدوبامين أنّه يرغب بها، ولو كان بقرب هذه الوحشة وحشًا أقوى منه، سيخبرك السيروتونين القليل أنّك لن تستطيع أن تأخذها، فهو يعدّ المكانة ويمنعك من صراعات خاسرة، ولو غضّ الطرف عن الوحشة، يتمشّى قليلًا فيجدُ أسدًا هزبرًا يلاحقه، هنا سيولّد الكورتيزول طاقة تمكّنه من الهرب، قد يتعرّض إلى العضّ من ذلك الأسد، لكنّ الأندورفين يسكّن آلامه مؤقتًا، يستمرّ بالركض إلى أن يجد قطيع الوحوش خاصته، فيفرز الأوكسيتوسين ليشعره بالدفئ والحنان، وليحثّه على البقاء قرب القطيع في المرّة القادمة.
ربما هذه القصّة المشوّهة قد ساعدتك على فهم أهميّة هذا الوحش لحياتك، لكنّه في نفس الوقت وحش أخرق، فهو قد يفرز الدوبامين ويرغب بوحشة موجودة على بكسلات شاشة الكترونية، يفرز السيروتونين عندما يرفع من مستوى شخصيته في لعبة الكترونية، قد يتورّط بمخدّرات فقط لأنّه يشعر أنّ هذا أندورفين حقيقي. بعبارة أخرى: يمكن أن يتكيّف بشكل خاطئ، ويقود إلى الكثير من السلوكيات الضارة.
الفطناء على الصعيد الآخر، تتمثّل بالفص الجبهي Prefrontal Cortex وهي تمكّنك من التفكّر بالمفاهيم المجرّدة، والعمليات المعقّدة، وتوقّع الخطر من هذه المعلومات بدون الحاجة لوجود أسد يطاردك، وهي التي تدير الطاقات التي يولدّها الوحش نحو الأمور المناسبة، بإختصار، الفطناء تمثّل كل ما يفرّقنا عن الحيوان.
الصراع
تكون لنا أحيانًا نوايا لفعل أشياء عظيمة، نترك شيئًا ضارًا، نتعلّم عادة مفيدة، لكنّ ينتهي الحال بنا أن لا نفعل شيئًا من هذا، وبدلًا عن ذلك، ننخرط في عادات أكثر ضررًا، لأنّك تشعر أنّك تعمل ضد نفسك دائمًا، وتحتاج أن تجبرها بمرارة حتى تظهر كما تريد. لهذا ففهم لوحة الفطناء والوحش يساعدك على إصلاح ذلك، يساعدك على العمل مع نفسك لا ضدّها، ويقلّل حدّة الصراع مع النفس حتّى تقوم بالأشياء المفيدة، لأنّ الصراع ضار جدًا، ويؤدي إلى تخريب الذات، سواء أكان ذلك كذبًا على النفس وإخفاءً للحقائق عنها، أو لومًا قاسيًا بسبب فقدان بعض نقاط المكانة، أو حتّى تبريرات للانغماس في أعمال أكثر ضررًا، لكنّها أكثر سهولة.
بشكل عام هناك مشكلتان تنشأن من هذا الصراع بين الفطناء والوحش
1-الأشياء غير المنطقية التي تعجب الوحش تبدو لذيذة، سهلة الفعل (أو على الاقل في لحظتها)
2-الأشياء المنطقية التي تعجب الفطناء تبدو صعبة ومؤلمة للنفس.
وما يعظّم هذه المشكلة، أنَّ الوحش أكثر استعدادًا للقتال من أجل رغباته، أمّا الفطناء فتبدو كلاعب أنيق، فراشة على أرضية الملعب، فهي إن لم تنتصر في المرّة الأولى، لا طاقة لها بالقتال، لا ترضى بإتسّاخ ثيابها أو خدش خدِّها، وهذا أيضًا له أساس علمي، فالفطناء التي تتمثّل بالفص الجبهي، تُريد أن تحتفظ بأكبر قدر ممكن من الطاقة، وأن لا تٌفرِّط هذه الطاقة في صراعات خاسرة، لهذا قد تنسحب من معركة مثل هذه، وتدع الوحش يسلك طريق إتّباع الأسهل، طريق لذاته.
ويجدر الإشارة هنا، إلى أنَّ الوحش ليس سيئًا، وعنده نوع من العقلانية التي يفهمها هو، فهو الذي يجعلك تنتفضُ مدافعًا عن أهلك عند خطرٍ ما، دون تحكيم العواقب، فما الذي يُجدي بعدهم؟ لكنّه أقل ذكاءً من الفطناء، خصوصًا لو تعلّق الحال بالأضرار بعيدة المدى، فلن يعي ذلك جيدًا، إلّا لو قُدته، ووثق بحكمتك.
هناك طرق عديدة لحل الصراع بين الفطناء والوحش، أعدّدها ثم أذكرُ مثالًا تطبيقيًا:
أ- التفهّم
أن تتفهّم جزءك الآخر، هو بداية الطريق لحل المشاكل، فالصراع ينشئ من انفراد الوحش بلذّاته عندما تسنح الفرصة، ولا يُقيم للأجزاء الفطنة بالًا، وبعدما يقضي منها وطره، تأتي الفطناء وتسقيه ألوان اللوم، وضروب التوبيخ، لأنّه انغمس مجددًا في طريق ما كان له أن يسير فيه، ويبقى هذا الانقسام والصراع في دائرة لا تنتهي. سلوك القمع والبطش لا يُفيد، إنما يُراكم تلك المشاكل في خزانة، سيقع ما فيها على الأرض عاجلًا أم آجلًا، فالحل هو أن تتفهّم أنَّ لك رغبات أصيلة فيك، عليك أن تسعى لتحقيقها لذلك الوحش، لكنّ دور الفطناء، أن تشذّب تلك الرغبات، وتقودها في طريق صحيح.
المشكلة أنّ الوحش لا يعرف أن يتكلّم، وليس له القدرة إلّا على الصراخ غير المفهوم، يشبه صوت إليوت هولس عندما يقوم بتمارين الحبال الصوتية، والفطناء يجب أن تكون جاهزة لصياغة ما يمرّ به بجمل واضحة، حتّى تحول لُجّة المشاعر تلك إلى شيء يُمكن أن يُتعامل معه، ولا يجب أن تحكم على تلك المشاعر بالسوء من البداية، فالمتهّم بريء حتّى تثبُت إدانته، صغ كل شيء بوضوح، ثمَّ عرِّضه لمصفاة الحقيقة والمنطق.
ب- القيادة والسيطرة
التفهم لا يعني أن تقول له: أوه، أنت محق، أنا أتفهّم ما تمرّ به، هاك خذ ما تريد. هذه ميوعة تشبّه ميوعة التقدميّين، يجب أن تكون للفطناء قيادة حكيمة، فلا غنى عن ذلك، والقيادة تتمثّل في وجود رؤية واضحة للأهداف، ولما ستؤول إليه الأمور قادمًا، فالوحش لن يسير معك في طريق ليس فيه وضوح، عليه أن يؤمن بأهمّية هذا الطريق الذي تسير فيه، وليس هذا فقط، يختبر أحيانًا صدق نواياك، فلو كنت تريد شيئًا، وأقنعت الوحش بذلك، ثمَّ عند وقت التنفيذ، لم تُحرِّك عجزك السمين، أو تخلّيت عن الهدف بسبب عذر واهٍ، فلن يكون واثقًا بصدقك، ستكون الفطناء بالنسبة له ثرثارة تهرئ وتهذي.
تحتاج أيضًا إلى نوع من السيطرة، فالقيادة بدون سيطرة عديمة الجدوى، وهي مُجرّد اقتراح بالنسبة لهذا الوحش، والاقتراحات يسهلُ إهمالها ونسيانها، الموضوع يشبه أن تعرض في عقلك اعلانات جذّابة تحثّك على فعل الأشياء الصائبة، الأشياء التي تقنع الوحش أن يسير معك، ويستمثر في رؤيتك موارده وطاقاته، ثمَّ تمسكه من يده وتضعه هناك.
ج-قول لا
من أكثر الصفات سوءًا في هذا الوحش، أنّه يميلُ إلى لعب دور الضحية دائمًا، ليبرّر رغباته، دور الضحية هو شعور يأتي يُخبرك أنَّ الأمور مُسيطر عليها من قوّة خارجية، وليس لك قدرة على التحكّم في أيّ شيء، هذا مبرّر ليغمّس هذا الوحش نفسه في الأشياء السهلة، لأنّ الكون بأكمله يسير ضدّه، فلماذا يُتعب نفسه فيما هو صعب؟
إذا حدث (س) سأشعر بـ (ص) ولهذا عليّ أن أتصرّف بـ (ز). – المعادلة الرياضية الوحيدة التي يفهمها الوحش.
هنا يكون الوقت المناسب لفرض سيطرة الفطناء التامّة، ويكون هذا بقدرة قول «لا» في هذه الظروف، وهذا ليس قمعًا، فهو بمثابة وجود الشرطة لحفظ النظام من الفوضى، وكذلك ليس كبتًا، فهناك تكبت بالقوّة ما تشعر به، أمّا «لا» فتعترف بوجود هذا السيل الجارف من المشاعر، لكنّك تتركه يهدئ بدلًا من أن تغرق فيه. الفكرة أن تُعيد المشاكل لمركزها الحقيقي لتعالجها لاحقًا بالسبل الصحيحة.
تخيّل هذا الوحش أراد شيئًا ضارًا كطفل صغير، ولكنّك كوالد عطوف لا تريد أن تعطيه ما يُريد، فتقول له بصرامة «لا» لكنّك لم تضربه أو تحبسه، أنت تراه في تلك الزاوية يبكي ويتحسّر على ذلك الرفض، لكنّه يعرف لمن السيطرة في هذا البيت، تتركه هناك لعلّه يهدأ، ثمَّ تعالج ما يمرُّ به بهدوء بعدها.
د-العناية
عندما تفهم وتُسيطر وتقول لا، سيمرّ الوحش بلحظات من النواح، فالخسارة هي ملموسة، وهي أنّه أُبعد عن الطريق الذي يحبّه، وما يعوّضه هي فكرة مجرّدة في المستقبل، فكيف له ألّا ينوح؟ هنا يجب تتقبّل العناء طوعًا، ثمَّ تقوم ببعض الخطوات التي من شأنها أن تهوّن عليه لفترة مؤقتة، قبل أن يشعر بفيض النتائج الإيجابية مستقبلًا.
ما ذكرته من النقاط الثلاثة الأولى، يكون مهمًا عند الوقت الذي يعصي فيه الوحش صاحبه، لكنّه في باقي الأوقات حمل وديع، فلستَ في حرب حتّى تكون معه بنفس الصرامة دائمًا، تحتاج أن توجّه الطاقة إلى مكان آخر، وهذه الأمكنة تعود بالنفع عليكما، وتكون فنًا من فنون العناية. صرف الطاقة في ذلك الطريق، يجعل اللحظات التي تحتاج فيها للصرامة مع الوحش أقل وأقل.
هذا يكون بأن تبحث عن عادات جديدة مفيدة، وهذه تكون على نوعين، الأول هو ما تفعله عند وقت الشِدّة، حين يريد الوحش منك أن تتبعه في طريقه الضار، فتقترح عليه عادة سهلة، لا تحتاج لمجهود كبير، يسير بها معك حتّى يهدئ، كالمشي أو شرب الشاي، أمّا النوع الثاني، وهذه تميل لأن تكون متتطلّبة على المستوى البدني والذهني، لكنّها تعود بنفع أكبر، روتين للتمارين، أو قراءة موادٍ مجوّدة، يجري فيها الجُمان، ويُنثر عليها الدرّ، كتدويناتي.
ويجدر الإشارة أن تفعل هذه الأشياء بدافع حبّك لنفسك، ورغبة منك في عكس خيرها الداخلي للخارج، لا العكس، كما وضحتُ مرارًا في هذه التدوينة، لا أن تحاول بذلك رضا الناس وإعجابهم، فمثلًا تشعرُ في يوم ما، أنَّ نفسك تستحق أن تُعطيها قصّة لشعر، وتشذيب للّحية، وترى أنّ نفسك تستحقُّ ذلك رغم ما يتبع ذلك من إنتظار مُمل عند الحلّاق، أو رُبما تشتري مُنتجًا يُسهّل عليك حياتك، وكل هذا من الأشياء التي تعتني بالنفس لو كانت للأسباب الصحيحة، لا سباقات مكانة وتفوّق أمام الناس.
هـ- ردّ الدين
الخطوات الأربعة الماضية، كانت ما تفعله الفطناء للوحش، أمّا في هذه، فقد ألِف وحشنا حياة الحضر هذه، وقرّر أن يردَّ الدين لصاحبته، ويذلّل نفسه وطاقاته لما نُريد منه، وهو في حالته هذه، يُشبه تلك الحسناء الصعبة، التي أسمحت لامرئ القيس في أحد لياليه القصيرة:
وصِرنَا إلى الحُسنَى ورَقَّ كلامُنا ورُضْتُ فذَلَّتْ صعبةٌ أيَّ إذلالِ
وردّ الدين من الوحش يكون بأن يكون أقلّ عِنادًا في المرّة القادمة التي يغرّه فيها محفّز ما، لأنّه شعر أنَّ هناك قيادة حكيمة، تقوده إلى طريق أفضل، فكأنّه يقول: عندما تولّيتَ القيادة صِرنا أحسن من ذي قبل، هاك قُدْ وأنا أول التابعين. وهو أيضًا سيتهذّب ويكفّ نفسه في ذلك الوقت الحاسم، الذي يكون مفترقًا للطرق عادة، بين الإنغماس في لذاته، وفعل الشيء الأصوب، ويسير راضيًا في الطريق الثاني.
مثال تطبيقي
تخيّل أنّك عوّدت نفسك على معالجة مشاكلك بجُرعة دوبامين محفّزة، رُبما تتصيّد الأفلام السينمائية التي تُقيّم للبالغين، أو لستَ ممن يطيقون هذا اللعب على النفس، فتذهب إلى وكر الأفاعي مباشرة. وقد عرفتَ ضرر هذا عليك هناك في نهاية الطريق، وقرّرتَ أن تُغيِّر من نفسك، وبعد أسبوع من الصمود، مررت بيوم شحنك بأشياء سلبية، وكان الوحش يتوسّل إليك لأجل جرعة دوبامين جديدة.
التفهّم: أعرف أن ما مررت به اليوم كان صعبًا، لكنّك تُريد أن تجعل الأمر سوءًا بأن تتهرّب من المشكلة الأصلية، فأي عاقل يجرح نفسه عندما يحاول التهوين عليها؟
قول لا: لم يعد هذا الشيء جزءًا من شخصيتنا، لا يُمكن أن تسمح لأيّ شيء سلبي أن يحفر فيك هذه الحفرة مجددًا، ربما يكون بني أدم أجوفًا، لكنّه ليس أجوفًا من الإرادة.
القيادة والسيطرة: ما دُمتَ تُريد جُرعة دوبامين عالية، لماذا لا توفّر هذا على عقلك، وتستخدمها في إصلاح الخلل الأصلي؟ فأنت لو استهلكت كل الدوبامين هنا، لن يعود لك حافز أن تعمل على المشكلة الأصلية. هذه الشحنات السلبية اليوم إشارة أنّك تحتاج أن تصلح بعض الأشياء، لنأخذ من هذه المشاعر ما يُفيدنا، ربما ندوّنها على ورقة، ثمَّ نعمل عليها لاحقًا.
العناية: والآن قد نرفّه على أنفسنا بشيء أقلّ ضررًا، وأكثر مُتعة، كوبٍ من الشاي مع أحاديث العائلة، أو مشية في هواء نوفمبر المُعلِّل.
ردّ الدين: في المرّة القادمة، عندما يواجه الوحش ظرفًا كهذا، سينقاد طوعًا للطريق الصحيح، لأنّه شعر بالفرق بين الطريق السابق وهذا الطريق المُنير، ويكون في هذه الحال مثل نُعم حينما قالت لعمر:
فأنت أبا الخطّاب غيرَ مُدافع علي أميرٌ -ما مكثتَ- مؤمّرُ