اليوم أتحدّث عن الألم، والنظرة التي أعد بها، هي أنّك ستنظر للألم على أنّه أداة تساعدك على تحقيق أهدافك، سأحاول أن أقنعك أنّ الألم طاقة، لكنّها مطويّة في لغز، وعليك أن تفهم هذا اللغز وتحلّه، لتستفاد من هذه الطاقة في أن تعالج هذا الألم، تمنعه مستقبلًا، وتبني وتتقدّم.
وأنا هنا أتحدّث عن الآلم النفسي أكثر من الألم الجسدي المزمن، كتبتُ في الأخير مقالًا طويلًا، وبيّنت كيف يُمكن أن يتعامل معه المرء وفقًا لعلم النفس الحديث، واستنادًا إلى الفلسفة الرواقية.
كيف يمكن ان يعمل الالم لصالحك؟
وعدتك أن تتعلّم معاملة الألم على أنّه معك، لا ضدّك، لكن علي أن أبرئ ذمّتي أولًا، فالأمر ليس سهلًا، لأنّه يسير عكس ردّة الفعل الإفتراضية في الجسم، وهي أن يتهرَّب من الألم، والهروب من الألم إلى اللذّة لا يقود إلى حياة جيّدة أبدًا، ولو كنّا مخلوقين لأن نهرب من هذا ونسير نحو ذاك، فما فائدة كل هذه الطاقة التي صُرفت علينا في حمل تسع شهور، وفطام عامين، وتربية عشرين؟ أليس من الأفضل، إن كُنّا مخلوقين للذّات الزائلة، أنّ نُلقى هكذا في مستنقع طيني لزج؟
حتّى تتعامل مع الألم بشكل مفيد، عليك أن تألف نقطتين، الأولى، مفهوم التضحية، فهي ما تقوم به طوعًا، فتضحي فيه بالقليل الذي أمام عينيك، لأجل الكثير الذي يخبّئه المستقبل، ولا يمكن أن تُتقن مفهوم التضحية من دون أن تكون في وفاق مع الألم، والنقطة الثانية، هي أن تُلبس الألم وظيفة ما، فلا شيء أسوأ من ألم بلا وظيفة، وسأذكر عددًا من وظائف الألم المفيدة:
الألم كعملة
الألم هو عملة، هكذا يعمل الاقتصاد، يُدفع لك المال مقابل عمل (ألم) تقدّمه، ويمكنك ان تبدّل هذا المال الذي حصلت عليه لتحصل على ثمرة ناتجة من ألم يمرّ به الباقين.
هذا المفهوم ليس اقتصاديًا فقط، تستطيع تطبيقه على مفهوم الانضباط، فهو أيضًا نوع من التجارة، تستثمر فيه ألمًا في الوقت القريب، مقابل متعة أكبر على المدى الطويل، لهذا فلو نظرت لهذا الألم كعملة، ستستخدمه لتحصل به على الأشياء التي تستحق أن تُملك.
تخيّل أنّك تريد أن تشتري بيتًا بقرض، وتخيّل أنّك تريد أن تبدأ عادة النهوض مبكرًا
- غلاء البيت يمثّل صعوبة العادة، أي صعوبة ترك الفراش الدافئ، وصعوبة إجبار النفس على النوم مبكرًا ليلًا.
- ما تملكه من المال قبل قرض البيت يمثّل إرادتك للنهوض باكرًا، وكميّة الانضباط التي تتحلّى بها.
- الأقساط الشهرية تتمثّل بما تقدّمه من تحمّل للألم الناتج عن النهوض باكرًا.
- عندما تسدّد قرض البيت، هذا يعني أنّك أبدلت كمية كافية من الألم لجعل هذه العادة شيئًا طبيعيًا في حياتك، وبذلك مرّنت عقلك على أن يتأقلم مع هذا الوضع الجديد.
الألم كحافز
عندما تخشى من حدوث أمر يضرّك، ستتحمّل الألم في سبيل منع ذلك الأمر من الوقوع، فتتصرّف، هذا واضح عندما تؤجّل التحضير لامتحان ما حتّى الأيام الأخيرة.
مثال الامتحان مثال بلغ فيه الألم مرحلته الأخيرة، ولا مفرّ لتجنبه، المشكلة في الألم المتوسّط، الذي يُمكن أن يُسكّن ببعض المُشتّتات الوقتية، فمثلًا عندما أخرج من محاضرة لم أفهم منها الكثير، يراودني شعور بالانزعاج، هذا نوع من الألم يقول فيه عقلي أنّي يجب أن أعمل أكثر على هذه المحاضرة، لكنّ عدم استغلال الالم كحافز، ومعاملته على أنّه مزاج يُحسن أن نهرب منه، قد يحثّني على التهرّب منه أصلًا، فبدلًا أن أضع خطّة لإتقان الموضوع، قد لا أحضر المحاضرة من الأساس حتّى أتجنّب هذا الألم، أو بعد أن احضرها أعالج نفسي ببعض السلوكيات المشتّتة، ساعات طويلة على الإنستغرام، مشاهدة المسلسلات، ألعاب فيديو، بدلًا من محاولة وضع خطّة عمل لإتقان الموضوع.
الألم للنمو.
الألم أيضًا شيء يمكن أن تستخدمه لتنمو، أوضح مثال على هذه النقطة هي العضلات، لن تجعلها أقوى إلّا بأن تجعلها تكابد الألم، تهدّم ثم تنمو. عندما تفهم هذا المعنى، تستطيع الغوص في معنى أعمق لهذا النمو، سيمكّنك ذلك العمق من إيجاد فائدة للألم، بعدما لم تكن تنظر إلّا لمأساة.
تخيّل أنّك شخص معتدٌّ بنفسه، يرفض اصلاح عيوبه، لأنّها حسب اعتقاده، لا تؤثِّر فيه أبدًا، فكل ما يُريده يحصل عليه رغم وجود تلك العيوب، والآن تخيّل أنّك رُفضتَ من فتاة حسناء، لا شكَّ أنَّ هذا سيولّد ألمًا عاطفيًا مُزعجًا، لكنّك قد تستخدم هذا الرفض لأن تنمو، خصوصًا أنَّ هذه المواقف لا تُقابل بالأسباب عادة (إلّا لو كانت صاحبتك معجونة من ريق الحيّة أو قيئها) ففكرة وجود شيء ما جعلها تُميط بودّها عنك، جعلتك هنا تُصلح أكثر من شيء في ذات الوقت، وجعل الحسّ المتكبّر ذاك يعود إلى مقعد متواضع. وأنبّه أنّ هذا الإصلاح يجب أن يتصّف بصفة مهمّة، وهي أنّك تقوم بهذا لأجل نفسك، لأنّك تريد عكس خيرك على كل شيء، لا سحرًا لجلب الحبيب واسترجاع الود!
ويجدر الإشارة أنّ معاملة الألم كوسيلة للنمو شيء مُغرق في الصعوبة، فلن تنمو إلّا لو كنت تتحلّى بعقلية تعامل الألم على أنّه كذلك، هذا لحسن الحظ ما يُمكن أن تستفاد منه بقراءة تدويناتي، وإلّا فقد تكون نهبَ المشتّتات التي تقلّل عنك هذا الألم!
الألم للتكيّف
قلتُ أنّ دماغنا يهرب من الألم، وهذه الفكرة يُمكن أن تُستغل سلبًا أو ايجابًا، فيمكنك أن تُوصل هذه الفكرة بدائرة سلبية، فتحصل على هروب من الواقع المؤلم ببعض الإدمانات، أو يمكن أن تربط ذلك بدائرة إيجابية، فيمكنك أن تهرب من الإدمانات المؤلمة، إلى الواقع الأقل إيلامًا.
لنأخذ مثلًا، الإدمان على تزوار المواقع الإباحية، وإنّي أُكثر من ذكر هذا، لأنّه موضوع بالغ الأهمّية، ولأنّي أعدُّ هذه المقالات لتدور حول هذه الرحى. المهم، أنّك هنا تستطيع أن تهرب من الواقع، أيًا كان سوءه، إلى عالم وهمي خيالي، يُشعرك بشيء من التحسّن ولو لوهلة، والسبب الذي يجعل عقلك يحبّ أن يهرب لهذا المكان، أنّه يُعطي نتائج سريعة، لعمرك هذا أسرع من شربة الماء، فالثلاجة أبعد من هاتفك الذي في جيبك، والهروب كثيرًا هناك، يربط تلك العصبونات التي تتفعّل وقت الشعور بشكل سلبي، بالعصبونات التي تعرف طريق تلك المواقع، وما يعمل معًا، يُربط معًا عندما تتحدّث عن الأعصاب.
وحتّى تستطيع فكّ هذه الدائرة المربوطة سوية، يجب أن تمر بسلسلة من الألم، لتفكّك شعورك بالإحباط، عن رغبتك في زيارة تلك المواقع، فأنت احتجتَ وقتًا طويلًا لتكوّن هذه الدائرة، وعقلك لن يهدمها إلّا بوقت طويل مثله.
المشكلة أنّ الأجزاء العاطفية فينا غير مدربة على تحمّل الألم، أو بعبارة أصح، تعامل طرق التعامل مع الألم بشيء من التشكيك، لأنّها لا تستطيع تحليل ذلك منطقيا، وهذا قد يكون مفيدًا في بعض الأحيان، تخيّل أنّ عقلك المنطقي أقنعك أن الطيران بتأبّط كومة من ريش الطيور أمر ممكن، فلو لم يتدخّل الجزء العاطفي، وذكّرك بألم السقوط من مكان عال، لكان مصيرك كسرَ كتف ودقَّ عظم!
لهذا من الصعب أن تصدّق مكوّناتك العاطفية أنّ تلك الفكرة جيدة، وستُبدي مقاومة في البداية، خصوصًا وأنّ التخلّي عن هذا الأمر يُسبّب إزعاجًا وخسارة وملموسة، يجب أن تُثبت ذلك من خلال تحمّل الألم، فتلك الاجزاء ستقول لك ما دُمت عازمًا على هذا الطريق، إذن حاول أن تقوم بذلك وفوف كتفك أثقال من العوائق من المعاناة والألم، وهذه هي الطريقة التي يختبرك فيها عقلك العاطفي.
من تصدّق أكثر، نصيحة من رجل مرّ بسنين من المعاناة المرّة، أم نصائح شخص يرمي بالفكرة في دقيقتين؟ عقلك يختبرك على هذا المنوال.
لديك دائرة عصبية تُعالج فيها المعاناة بشعور من اللذّة الوقتية، فلو غيّرت من هذا، وأصبحت تعالج هذه المعاناة بشيء فاضل بديل، فأنت لا محالة ستمرّ بمرحلة من الألم، لكنّ السحر الذي يحدث بعد فترة، هو أنّ عقلك كلما طلب معالجة المعاناة باللذّة، قابله عقلك المنطقي بالرفض، وهذا ولّد ألمًا جديدًا، هذا الألم الجديد هو ما يُساعد على تفكيك الدائرة القديمة، لأنّ عقلك حينها سيفكّر: كلما أردنا ربط هذا الإحساس السلبي بتلك المواقع، قُوبلنا بالألم، لنهرب من هذا الألم ونربط هذا الإحساس بشيء آخر، بتلك الأشياء الفاضلة البديلة رُبما، فهي بدأت تُعجبنا!