في التدوينة الأخيرة، كتبتُ شيئًا عن استحقاق النفس للتقدير بعين صاحبها، وأنّ الأعمال يجب أن تنطلق من أرضية صالحة، وهي أرضية يخبر فيها الشخص نفسه انه يسعى لهذه الاعمال رغبة منها في تكريم ذاته، وإظهار خيره للخارج، وليس العكس، فيربط تحقّق تلك الأشياء الخارجية بقيمته الداخلية. ورأيت انها فكرة تستحق أن أبني عليها مقالًا جديدًا، وأتوجّها بأمثلة عملية، وسترى بُعد نظري في هذا الأختيار بعد أن تنتهي منها!
قلت في التدوينة السابقة عمّا لو كان هدفك أن تضع ساعات أكثر في التمارين الرياضية، بدلًا من أن تربط قيمتك بتحقيق النتيجة، تقول لنفسك أنّ هذه النتيجة لا تؤثّر على قيمتك، لكنّك تقوم بذلك حتّى تعكس هذا الخير الذي فيك للخارج، فمن يرى في نفسه فارسًا، يستحقّ أن يهدي نفسه هدايا تخصّ الفروسية، كأن يُتقن ركوب الخيل والمبارزة، وأن يُحسن الإرتجاز!
وحتّى نطبّق هذه الفكرة بشكل أعمق، نحتاج للخيال، لدينا فصّ جبهي أكبر من الغوريلات بأربع مرّات، وهذا يُساعدنا على تخيّل ما ستؤول إليه المعلومات المجرّدة في المستقبل، ومن ثمَّ التصرّف على إثر ذلك، فأرى من التبذير أن لو تركنا هذه الميزة منسيّة، أمّا فائدة ذلك، وهي أن نؤسس طرقًا صحيحة، وندفن أخرى لا تساهم إلّا في استهلاك طاقتنا من غير ما نفع.
وإبقاء طاقتك مُنسجمة مع ما تريده من نفسك، أمر بالغ الأهمّية، فتخيّل أنّ لك حصّة من الماء، وهذه الحصّة تستخدمها في تنمية قطعة من أرضك، والماء مورد ثمين عند العرب، أما تراهم يدعون للحبيب بسُقيا الغيث؟ لو ركّزت ماءك على أرضك، أثمرت وأينعت، ولو سمحت لهذا الماء أن يتسرّب إلى أرض خبيثة بجوارك، نمت أشجارها الخبيثة، وتجاوزت على أرضك، والتفّت على نباتاتك الفتيّة، حتّى أنّك صاحب الأرض، يتضايق مقدمك فيها، ويعود التجوّل صعبًا شاقًا، فتنفرُ من تنمية أرضك وتزكيتها.
ولو أردتَ أن تُعامل المقال بماديّة محضة، فالأرض الخبيثة أصبحت بجوار أرضك صدفةً، وهي تتمثّل بكل ما يغرّك أن تسرف فيه وقتًا وطاقة، ألعاب فيديو، جلسات طويلة على المسلسلات، أو فُواحش جذّابة، أمّا لو قرأت مقالي عن الشيطان، فهو يأتي خصيّصًا لوضع هذه النباتات الخبيثة بجوار أرضك، ويغرّك أن تسقيها من ماءك ووقتك.
المثال الأول
تخيّل أنّك زوج مُخلص، يحبّ عِرسه وأولاده جدًا، ثمَّ عرضت لك فتاة فاتنة، ولسبب ما، غرّك حسنها، وليس ذا ببعيد، وإنّي أظنّه من الفطرة، المهم، تخيّل أنّك أردت الحصول على هذه الفتاة بأيِّ طريقة، ولم يزدك شعور المنع إلّا رغبة وشوقًا. ربما لم ترد هذا، لكن هناك أجزاء من طاقتك وانتباهك، تسرّبت إلى حيث لا تريد، وأنهكت مستودعات الطاقة التي تريد تخصيصها لأمور أهم.
الذي حصل هنا، هو أنَّك – في هذا السيناريو المفترض- علّقت جزءً من مكانتك الداخلية، على أمر خارجي، فسعادتك وقيمتك أصحبت مرتبطة بنيل تلك الفتاة، بعبارة أخرى، حبستَ قطعة من روحك، ورهنته بشيء خارجي، وصار ذلك همّك، وهذا أحد أشكال تسرّب مورد الماء من دون رغبتك وإذنك، ليسقي أرضًا خبيثة بجوارك
تستطيع التعامل مع الموقف من زاوية منطقية، فقد تقول بفزع: هذا يضرّ بسمعتي ومروءتي، هذا عيب، هذا حرام، وإن كان هذا كافيًا في الكثير من الأحيان، لكنّه قد يُبقي شيئًا من الرواسب في الروح، هناك أجزاء عاطفية فينا لا تفهم هذا المنطق كثيرًا.
لذلك فلتجرّب أن تنظر للموضوع من زاوية تفهمها الأجزاء العاطفية، تخيّل أنّك حصلت على هذه الفتاة، قضيت منها وطرًا، ونلتَ منها ما تريد، ولا أحثّك هنا أن تتخيّل سيناريوات مشوّقة، أو مواعيد غرامية، مدوّنتي ليست لهذه الأشياء، وهل يُعطي العطيةَ فاقدُ؟ الفكرة أن تتخيّل حالك بعد حصولك على ما تتمنّى، اذهب إلى نهاية القصّة، وحاول أن تتخيّل كيف يكون شعورك لو كنتَ في عالم افتراضي، ليس فيه قيود، ولا عواقب لما تفعل؟ ولا تدّعي الكمال وتقول أنّك ستشعر بالندم، ستشعر بشعور مُبهج، بالرضا والسعادة.
الفكرة هنا، ما دُمتَ تشعرُ بالسعادة في هذا التخيّل، أنت قادر على أن تشعر بذلك بدون الحاجة لما في التخيّل، فإذا كُنت تريد رضا وسعادة فهذا أنت! هذا ما يُفترض أن تكونه في أيّامك العادية، حينما تقوم بما عليك من أعمال، وتحقّق ما تخطّط من أهداف، لكنّك هنا قد حسبتَ قطعة من نفسك في لعبة وهمية تُشعرك بالمكانة والقيمة.
ما أريد أن أصل إليه هنا، أن عوّد نفسك على أن تتخيّل هذا مع كل موقف مُشابه، كأن تسعى لشيء ما يكون لك امتلاكه، تخيّل ما يحصل بمثابة رحلة، تنطلق فيها لتحرّر قطعة من روحك، حسبتها في سجن، واشترطتَ الإفراج عنها بشروط ليست تحت إرادتك، والسجن هذا قد يكون سجنًا بشكل شهوة، شيء يُشترى، مكانة اجتماعية أو أيّ شيء آخر. اقتحم السجن وأفرج عن تلك القطعة المسكينة، لن تكون المهمّة صعبة، فلا حارس هناك، إذ أنّك صانع السجن والسجّان.
عندما تستخدم هذا الخيال بصورة مستمرّة، ستقلّل الوقت الذي تحتاجه كل مرّة للإفراج عن روحك، ستصل لمرحلة تُردّد فيها ثلاث كلمات، وينتهي كل شيء، تقول لنفسك حينما يُواجهك موقف مماثل: رُدَّ إليَّ قُطعتي، وهكذا تعود سريعًا إلى إتزانك، وتغطّي تلك القطعة موضع تسرّب الماء، وهذا مُفيد جدًأ أن تمنع طاقتك من أن تتسرّب وتسقي حقولًا لا تُريدها، حقول مشوبة بالنباتات الخبيثة التي تُريد أن تلتف عليك وتخنقك.
في المرّة القادمة، لن يكون هذا الموقف الذي يدفعك من الإتزّان مؤجّجًا لشوق مزعج فيك، لا تقدر أن تتحكمَ فيه، بل سيكون تذكيرًا أنّك ترهنُ قطع من نفسك في سجون وهمية، وسيكون موقفًا تحتفلُ فيه أنّك أرجعتَ موردًا للسقي، من حقل خبيث، إلى حقل يستحقُّ أن تُنمّيه.
المثال الثاني
تخيّل مثالًا ثانيًا، أنّك تُريد أن تكتسب عادات نافعة جديدة، وتتخلّص من أخرى ضارة، لكنّك رهنت قيمتك بإنجاز تلك التغيّرات، هذا المثال يفرق عن الأوّل أنّه يسعى لهدف نبيل، لكنّه يستخدم نفس الطريقة التي تؤدّي إلى تخريب الذات، فالسعادة مؤجلة، والقيمة مُعلّقة بتحقّق الناتج النهائي، وحتّى ذلك الحين، أنت فاقد لجزء من قيمتك وسعادتك.
المشكلة في رهن قيمة الشخص الداخلية بتحقيق أهداف خارجية، أنّك ستكون في دائرة لا تنتهي، ففي البداية أقول أنّ دخولي لكلّية الطب سيجعلني سعيدًا، وبطلًا في أعين الناس، ثمَّ أدخل للكلية ولا أشعر بهذه السعادة، وبدلًا من أن أفهم أن تعليق السعادة على شيء خارجي أمر ضار، يُصبح هدفي أن أتخرّج وأعمل في المشفى، أتزوج، أنجب طفلًا، أترقّى، أتقاعد، وفي أثناء كل هذا القيمة غير مضمونة، والسعادة مؤجّلة.
إذا كُنتَ شخصًا يعلّق قيمته بنجاحه في هدف ما، وكان نيل هذا الهدف بعيدًا، فما الذي سيجعلك، أنت الذي بلا قيمة في عين نفسك بدون الهدف، أن تقوم بالأعمال التي تؤدّي إلى ذلك الهدف؟ أنت سلكت طريقًا يؤدّي إلى تخريب الذات، وتكون أقرب لاتمامه حتّى النهاية ممّا لو قفزتَ فجأة إلى الطريق الصحيح، وهذا من أهمّ الأسباب التي تجعل المرء منّا، يتهرّب من الواقع، إلى عوالم وهمية افتراضية، لتهوِّن عليه شعور الخيبة والمرارة!
الطريقة الأفضل، هي أن تتخيّل أنّك بالفعل حقّقت ذلك الهدف، وتسمح لنفسك أن تشعر بشعور مُحقّق الهدف، ثم تُترجم هذا الشعور على أرض الواقع، فتستعمله بُوصلة للسير نحو الهدف نفسه، أضرب لك مثلًا، فلو كان هدفي أن أكون طبيبًا جيدًا، أُغمض عيني، أتخيّل كيف يشعر الطبيب الجيّد، وكيف يتصرّف في يومه، ثمَّ احتفظ بهذا الشعور في قلبي، وأجعله يقودني في أيّامي، فأدرس كما يدرس الطبيب الجيد، وأتعامل كما يتعامل الطبيب الجيّد، وهكذا أصبح أكثر تعلّقًا بالطريق وليس بالهدف، فالهدف ستصل له عاجلًا أم آجلًا إن كُنت بهذه العقلية.
هذا التخيّل يشبه أن تزرع بذرة في روحك، لنقل أنّك زرعتَ بذرة شجرة رمّان، هل تضلُّ هذه البذرة طريق نموّها؟ وليس هذا من هراء التنمية البشرية، فهناك تقول لنفسك أنت قوي، أنت قادر! من دون أن تعرف ما ينتظرك، وهذا لا يحفّز إلّا الأطفال، لكنّك هنا تتخيّل شعورك عندما تُحقّق الهدف، تحتفظ بهذا الشعور، تتُرجمه على أرض الواقع يومًا بعد يوم، كما تتفتّح ورقة الرمان، وهذا كما قلت يجعلك أكثر تعلّقًا بالأيّام، وأكثر تقديرًا لزمن الرحلة، لأنّك تعرف أنّك واصل للنتيجة. أمّا هناك، فأنت تعدُّ الليالي حتّى تنتهي وتحصل على المكانة. ولعلّك فهمت سرّ غلاف المقال الآن!
هذا النوع من التخيل مفيد بشكل لا يوصف، لنقل أنَّ هدفك هو الحصول على مبلغ من المال، ثمَّ تتخيّل شعورك وأنت تحصل عليه، وتجعل الشعور يقودك كما قلنا، الفائدة من حصولك على الشعور في البداية، أنّك تسمح له بتوجيهك، فيمنعك مثلًا من تحقيق المال بطريقة تحطّ من الناس، أو تستغلهم، وهذا يجعلك حتّى لو لم تصل إلى المبلغ المطلوب، أكثر رضا ممّا لو حققته بتلك الطرق.
لنرسّخ الفكرة بأمثلة إضافية، فلو أردتُ أن أتمرّن، سأتخيّل أنّي رياضي، ومسألة حصولي على جسمه مسألة وقت، ثمَّ أتصرّف كما يتصرّف الرياضي في يومه، كيف يظهر للتدريب كل يوم حتّى لو لم يشعر أنّه يريد ذلك. ولو أردتُ كتابة مقال، سأتخيّل أنّي كتبتُ المقال فعلًا، وأفاد عددًا من الناس، ثمَّ أسمح لهذا الشعور بأن يتُرجم على أسطر التدوينة. وفي هذه الأثناء، ما أنس من الأشياء لا أنس الفكرة الأم، وهي أنَّ قيمتي، وعزّتي في عين نفسي، لا يُغيّرها مقال، ولا يزيدها تمرين.
تدريب وملخّص لأفكار التدوينة
في المرّة القادمة عندما تكون في موقف تُعلّق فيه سعادتك على شيء خارجي، وكان نيل هذا الشيء ضارًا، تخيّل شعورك عندما تملكه، وتدرّب على تحرير قطعة روحك من السجن.
في المرّة القادمة، عندما تكون في موقف تعلّق فيه سعادتك على شيء خارجي، وكان هذا الشيء نافعًا، تخيّل أنّك ملكت هذا الشيء، وتصرّف كمن يملكه، واجعل هذا ينعكس على أعمالك.