في أحد مقالاتي السابقة عن استخدام أنكي في الدراسة (1) تحدّثت عن الذاكرة، ونبّهت على الطرق التي يتم فيها إدخال المعلومات إلى الذاكرة، ثم قلتُ : «الانتباه، سيكون سخيفا لو تحدّثنا عن الانتباه، أنت تعلم كيف تنتبه». حسنًا، يبدو أن الحديث عن الانتباه ليس سخيفًا كما ظننتُ، لأنّ التعامل معه يؤخذ على ضمان. ويكثر أن نفرِّط فيه، ونشتّته هنا وهناك.
إنَّ من أهم ما يُحدّد قيمتك في هذا الاقتصاد، كشخص يعتمد على المعرفة كمنتَج يقدّمه، هو مدى قدرتك على فهم المواضيع الصعبة والمعقّدة، ومن ثم إتقانها في أسرع فترة ممكنة، هذا ما يجعلك ذا قيمة في هذا السوق، ولكي تستطيع أن تقوم بهذا على أكمل وجه، عليك أن تدخل في مرحلة من العمل العميق، عمل لا يُشتتك عنه شيء.
جيّشتُ لهذا المقال أفكار خير نموذج في هذا المجال، كال نيوبورت، جذبني عالم الحاسوب هذا بعلمه وأناقته في احد محاضرات تيد القصيرة (2)، أعجبني أنّه لم يستخدم مواقع التواصل أبدًا في حياته، وأعجبني كونه كاتب عظيم، عالم ومدرّس جامعي، وكونه زوج سعيد وأب لثلاثة أطفال، يُهدي مقدّمات كتبه لعِرسه، ويحرص على رواية قصص ما قبل النوم لبَنيه. أضحكني أيضًا في طريقة ختامه لمحاضرة تيد: إذا كان لديك إعتراض عمّا أفعل من عدم إستخدام هذه المواقع، وكان هذا الاعتراض سديدًا، أنا أتقبّل كل ذلك، فضلًا قم بنشر رأيك على تويتر! أيُّ نكتة ذكيّة! ثم قمتُ الى كتاب الماجريات لإبراهيم السكران، لأنّي إشتقتُ لقراءة شيء عربي، ولأنَّ السكران أعجبني في تجارب سابقة بخصوص الانسياق لثقافة الغرب الغالبة.
لذا، أفكارنا اليوم ستكون من كتابين عظيمين، Digital Minimalism و Deep Work لنيوبورت، ونستعين قليلًا بماجريات السكران، سأشرح أولًا أهميّة العمل العميق، وأضرار التشتّت، ثم أُسهب في الحديث عن مواقع التواصل، كونها المُشتِّت الأول في هذا العالم، سيحفل المقال بتجاربي الشخصيّة، أظنّك تعرف الآن من مقالاتي السابقة أنّي لا أترجم حرفيًا، بل أصبغ ما أقرأ بتجاربي، لذا إن أردتَ التوسّع، اقرا هذه الكتب، لن تُخيِّبك. ويبقى أن تعرف أن نَفسي طويل في المقالات، فسمِّي وجارِني.
العمق مهم، نادر ومفيد
حتى تُتقن أحد المواضيع الصعبة، عليك أن تدخل في مرحلة من العمل العميق، لا تُركّز فيه إلّا على هذا الموضوع، وتترك كل شيء يضمحل في الخلفية، عندما تُركز على شيء واحد، خلايا الدوائر الدماغية المخصّصة للفهم تطلق الإشارات تلو الأخرى، لدرجة تجعلها تطلب المساعدة من خلايا أخرى لتُغلَّفها بالمايلين، حتّى تُسرِّع عملية نقل المعلومات بسرعة وكفاءة، هذا سيؤثّر إيجابيًا على قدرتك على إحكام الموضوعات بسرعة، لكي تكون جيدًا في موضوع، يجب أن تسمح لخلاياك أن تتمَيلَن.
هذه القدرة على التركيز العميق ليست سهلة في الوقت الحاضر، خصوصًا مع وجود كم هائل من المُشتّتات، تصل إلى مكان تركيزك بلا جهد. فقدرتك هذه تُحيطها العوائق، وعند وجود عوائق سهلة مثل هذه، يعني أن عددًا كبيرًا من الناس يقع فيها، فيصبح هذا التركيز نادرًا. والاقتصاد يعلّمك أنَّ النادر غالٍ، عندما تُحكم الموضوعات المعقدّة بسرعة، واقتصادك يقدِّر المعلومات الدقيقة والعميقة، ستكون على هرم ذلك الاقتصاد.
عندما توظِّف كل خلية مُمكنة لتُخضع موضوعًا صعبًا، ثم تحقّق المراد، أنت لن تتقدّم مهنيًا فقط، وإنما ستحقق نوع من الرضا النفسي. لعلّك تتذكر آخر مرّة التزمتَ فيها بجدول معيّن طوال اليوم فأنجزت مهامتك، شعور الرضا ذاك يجعلك بمزاج إيجابي، وهذا لا يتعلّق بالنتيجة فقط، حتّى لو لم تُكمل فهم الموضوع أو لم تحصل على درجة عالية، إنّه باق رغم عدم حصول ذلك أحيانًا، لأنّك بذلت ما في وسعك في عمل مفيد. لا تظنّنَ أن ركونَك للراحة هو العيش الهَني، بل إنَّ غذاء النفس الانسانية فيما يُفيدها.
دماغك يُركّز على ما تفعل الآن، لا على نتائج بعيدة المدى، إذا كان فعلك الآن عميقًا، يحقّق لك فائدة ملموسة، سينسى السلبيات التي تُحيط بك، لن يعودَ همّها ثقيلًا. أتذكر الأيام التي أبلي فيها حسنًا دراسيًا، ثم أرى ما يَسوُء، فلا يكون لذلك أثرًا علي، بل ألحظُ أنّي أقل انخراطًا بهذه التفاهات، كأنَّ عقلك يُخبرك: أين كُنّا وأين نحن من هذا السَفَه! وقد علّمتنا الرواقية: أنتَ ما تنتبه له!
التشتت مزمن، ضار وسلبي
عندما تسمح للمشتّتات بأعتراض جلسة العمل العميق، انت ستُنتج عملًا ضحلًا، ومن صفات هذا العمل أنّه سهل التكرار، يستطيع فعله أي شخص، وهو قليل النفع والفائدة، هذه المُشتّتات لا تُضعف تركيزك بالضرورة، بل هو ذلك التبديل السريع من العمل العميق إلى هذه المُشتّتات السطحية عند أول لمحة ملل، هذا سيُدرِّب عقلك على قصر النَفَس عندما يُعالج موضوعًا معقدّا، وبالتالي يجعلك أقل قدرة على إحكام فهمه، وعندما تخسر معركة لهذه المشتّتات، أنت أقرب لخسارة المعركة التالية، وهكذا دواليك، حتّى تتأقلم مع هذه الحالة المُزمنة، فتُصيّرها دأبًا وعادة.
العمل الضحل يُدخلك في دوامة من السلبية غير المنتجة، عندما تغرق في العمل الضحل، قد تلجئ لآلية دفاعية، وهي أن تُشعر نفسك بالانشغال، انشغال لا يُغني ولا يُسمن. ألحظُ هذا عليَّ عندما لا أكون بحالة تمكّنني من الإستغراق في العمل، فالجئ لحيل تُشعرني بالانشغال، كأن أبحث عن أسئلة مراجعة قديمة تخصّ الموضوع (بدل فهمه من الأساس) أو أتهرّب منه فالجئ لمجموعة الدراسة الخاصة بالطلبة فأُجيب عن أسئلة سهلة على موضوعات أخرى.
التزم العمق وانفض التشتّت – خطوات للبداية
1/حدّد وقت الانتهاء
هذه النقطة هي أبرز ما طرأ على جدولي من تغيير بعد قراءة نيوبورت، فيقول الكاتب أنّه لا يعمل بعد الخامسة عصرًا، يُنهي كل شيء ويسمح لنفسه بأن يرتاح من كل شيء يخصّ أعماله كعالم حاسوب، يحتجُّ نيوبورت أنَّ هذا يجعلك أكثر قدرة على العمل بعمق في اليوم التالي، وفوق هذا، عندما تجبر نفسك على موعد مُحدد للإنتهاء، لن تقضي الوقت حالمًا متكّئا على يومك الطويل.
بالنسبة لي، وجدتُ الخامسة عصرًا أمرًا عسرًا على نفسي، فقرّرت أن أزيد الموعد حتّى السابعة، خصوصًا وأنّ حالتي عندما أقدم للدراسة بعد العشاء، كحال منافق دُعي إلى الجهاد، أتثاقل. وإن جاهدتُ في تلك الفترة، فما أنتجه فيها نزر يسير ما يضرّ إنقطاعه. المشكلة التي تواجهك عندما تُعطّل أعمالك باكرًا، هي أنّك قد تستغل الوقت في ملاحقة المُشتّتات، هذا أضرُّ من جهاد المنافق، وسأعرضُ لمدى ضرر هذا بعد قليل، عليك أن تُخطّط لمُتَع مفيدة منذ بداية اليوم.
2/التزم بروتين معيّن وخطّط لليوم
هناك عدد من الأعمال المتتالية، كترتيب السرير وغسل الإسنان، والتي لو فُعلت على فترات متباعدة لن يكون لها أثرًا كبيرًا، لكن بإجتماعها في أقل فترة مُمكنة قبل بداية اليوم، سيتجمّع هذا كروتين يُخبر عقلك: عندما أفعل هذا، تدخل أنت بعد ذلك في عمل عميق! انشئ روتينك الخاص، ثم خطّط ليومك كاملًا، حتّى لو طرأ طارئ، عدِّل وزحّف المواد التي فيه، لكن المهم أن تعي بإستمرار كيف يمر وقتك. وجدتُ كال نيوبورت، وقبله جوردان بيترسون، يحلفون بهذه النقطة!
3/امنع عنهم وصالك.
ليست نصيحة في المواعدة، لكنّها مهمّة في الانتاجية أيضًا، ما يُزعج الناس ليس شخصًا صعب الوصول، إنما ذلك الذي لستَ واثقًا من أنّه سيُجيب أو لا، تعاملت مع النوعين، شخص يوضّح أنّ الوصول له صعب، وقد لا يُجيب، أنت ستحترم فعلًا وقت هذا الشخص، ولن تتصّل به إلّا لأكثر الحاجات ضرورة. وشخص آخر غير واضح، لا تتوقع الذي سيفعله، مرّة يُجيب، عدّة مرات لا يفعل، هذا الأخير مزعج جدًا، لأنّك لا تستطيع تخمين مزاجه، خصوصًا لو احتجتَ مساعدته. بالحديث عن صعوبة الوصول، أعرف رهطًا من أصدقائي في الكلّية، لا يملكون حسابات على هذه المواقع، لا فيسبوك، لا أنستا، لا تويتر. الطريقة الوحيدة التي يُمكن أن تصل بها لهم هي عن طريق التليكرام، وأعرف أنّهم أبقوا هذا فقط لأجل تبليغات الجامعة، وبالتأكيد، ليس في الأمر مفاجئة، هم أكثر الطلبة تفوقًّا في الكلية، إنّهم خارقون! وأنا لا أدّعي هنا أنّهم لا يتشتّتون بأشياء أقل تفاهة (فيهم من يقرأ صور مرسومة يسموّنها مانغا من هذا الأنمي الذي يكرهون تسميته بالكارتون!) لكن هذه الأشياء تُقاوم أكثر من مُشتتاتنا نحن، ولا أدّعي أن عدم وجود هذه الحسابات سبب للتفوّق، لكنّه سبب للعمل بعمق، وحيث أُوجد في كلّية الطب، التركيز هو كل ما تملك، وعندما تملك تركيزًا لا تقتطعه هذه المواقع، أنت أقرب للقراءة من المصادر والموارد العلمية التي لا يستطيع غيرك تصفّحها، أشعر بالتفاهة عندما أحتجُّ في نقاشي مع أحدهم بفيديو رأيته على يوتيوب، ويحتجُّ هو بسنيل وغايتون وكوستانزو!
مواقع التواصل
1/ مواقع التواصل تهدف للربح
يقول ماركوس أوريليوس، أنّه حكّم عقلك في كل المباهج التي تُعرض لك، فذكّر نفسك أنّ اللحم المشوي اللذيذ، ليس إلّا جثة ميّتة، الخمر الذي تشربه ليس إلّا عنب مخمّر، والجماع ليس إلّا دفقة مخاط وإحتكاك لحم، ماركوس كان ينظر بعين حكيمة لما يفتن الإنسان، ويحثّه على أن يتجرّد من الخُيلاء، ولو أنّه عاش في زمننا هذا، لقال لك أن مواقع التواصل ليست إلّا شركات استثمرت أموالًا طائلة، ودرست كل حيلة نفسية مُمكنة، لتبقيكَ على منصّتها لأطول فترة مُمكنة، لتستغل وجودك لربح إعلاني. وبالتالي تقسيم إنتباهك، وإعاقتك عن أي عمل عميق قد يُنتج لك فائدة وقيمة.
حسنًا، هي ليست بهذا الشر حتّى تستهدفك شخصيًا، لكنها تستهدف ربحها، وإن أتى على حساب إنتباهك، بل ولو استطاعت أن تُقنعك بفائدتها، ستتكفل بالباقي أنت. هذه المواقع درست غرائز الإنسان الأساسية بدقّة، وركّزت كل ما تملكه لأجل اللعب على هذه النقطة.
من أبرز طرقها، هي أن تعمل على مراكز الدوبامين الخاصة بك، فعنصر المفاجأة موجود بشكل دائم في هذه المواقع، والدوبامين يشتهي المفاجئات، لأنّها ترتبطُ غالبًا بفرص للبقاء، سابقًا قد يجد الإنسان البدوي، بشكل غير متوقّع في صحراء قاحلة، بئرًا للماء، فيحفّزه الدوبامين على حفظ هذا المكان وزيارته مرّات كثيرة. لأن الماء يرتبط بالبقاء، والآن، تنشرُ أنت شيئا جاشت به مشاعرك، فتنتظر الإعجاب والتعليق، قد تحصل على الكثير، قد لا يتفاعل معك إلّا صديقك الصدوق أسلم، كل شيء غير متوقع، الأمر كآلة قمار، والدوبامين لا يفرِّق، سيتراقص على هذه الفرصة!
الطريقة الثانية هي اللعب على غريزة الانتماء، فالشخص يحبُّ أن يرى نفسه منتميًا لجماعة، وتوافقه الأخيرة فيما يقول، وجود هذه الإعجابات والتعليقات تُشعره أن القبيلة موافقة عمّا يقول، وعدم وفرة هذه الإعجابات قد تُشعره بشعور الصعاليك، لذا مراقبة هذه الإحصائيات مهمّة جدًا لأدمغتنا.
الذي يتصفّح هذه المواقع ليس غبيًا، وليسَ ضعيف الإرادة -فأنا أفعل ذلك كثيرًا، وكفى بذكائي حكمًا!- أعرف الكثير من الأصدقاء المتفوّقين دراسيًا، وفيهم من النباهة والتوقّد ما يُعجب الناظر المتوسِّم، لكنّهم ينشطون فيها كثيرًا، وأعرف يقينًا، أنّهم لو تخلّوا -كما أريد أن أفعل- عن هذه الأكباد، لحلّقوا عاليًا في سماء المعرفة.
2/ حيل لإبقاءك هنا.
يصف تريستان هاريس، وهو أحد العاملين ضمن فريق جيميل سابقًا- خدمات التواصل هذه أنّها آلة للقمار مصغّرة يمكن وضعها في الجيب (3)، عندما تُخرج هاتفك لتصفّح الإشعارات، الرسائل، محتوى الإنستغرام، أنت تلعب على آلة قمار، لأنّك لا تدري ماذا ستجد هناك. هذه الشركات لا تحترم إنتباهك كما يصفها هاريس، كل حيلة نفسية، كما قلت، مدروسة في هذه المواقع، لتُبقيك على منصاتها أكثر. وهي تفعل هذا بحيل منها:
أ- زر الإشعارات في فيسبوك لم يكن أحمرًا في البداية، كان بنفس لون الموقع الأزرق، لكنّهم وجدوا أن الأحمر أكثر جذبًا للانظار، هذا اللون يلعب على مشاعرك المزروعة فيك منذ بداية الخلق: ربما نار قادمة! ربما يُحذّرني هذا الصديق منها!
ب- إشارة التاك، لا تظنّن أن الاستثمار في تطوير الآليات التي تكتشف الوجه، ثم تُشير لصاحبه تلقائيًا هي لفائدة المستخدم وحده، هذه الطريقة تعتمد على نقطة ضعف مزروعة فينا، التقبّل الاجتماعي، عندما تريد أن تنشر صورة مع صديق، سيظهر أسمه أمامك، لن تستغرق عملية إشارته ثانية، لكنّها تُشعره أنّه مقبول إجتماعيًا، تُشعره أنّك فكّرتَ فيه، تجعله على المواقع لأكثر فترة ممكنة. كذلك الحال عندما تُغيِّر صورتك الشخصية، سيضعوها في مقدّمة التايم لاين عند أصدقائك، ليستدرّوا منهم أكبر كميّة من الثناء والإعجاب، لتبقَ أنتَ على الموقع أكثر، كيف سيُعجب أصدقائي بما نشرت؟!
ج- رد الدين، هذه المواقع تستغل هذه النقطة جيدًا، من يفعل لي جميلًا حسنًا أردّه له! عندما يتابعك فلان، ستشعر بالواجب لأن ترد هذه المُتابعة له، هذا سيُنشئ نوع من العلاقة التي تعتمد على ردّ الدين داخل الموقع أكثر من الفائدة والقيمة، عندما تتفاعل على منشوراتي السخيفة، أتفاعل على منشوراتك السخيفة، واحدة بواحدة. لا مكان للقيمة المُضافة هنا. الحال ينطبق على زر «تمت معاينته» البغيض، هذا سيُجبرك على الرد، لأنَّ المقابل سينتظر: ها قد رأيت رسالتي، فالآن رُد!
د- حدث في مثل هذا اليوم، قبل أيّام رأيت إشعارًا بما نشرتُ قبل سنتين، نتيجتي في بكالوريا السادس، هذه النتيجة هي ما مهّدت لدخولي لكلية الطب، كانَ حدثًا مهمًا بالنسبة لي، أردتُ أن أشاركها وأعلّق عليها بإقتباس ضاحك من بيت لعمر بن أبي ربيعة: والإنسان قد يتغيّرُ! لكنّي منعتُ نفسي عندما تذكّرتُ هذه الحيلة، كل يوم تقضيه في نشر منشور على هذه المنصّات، أنت تحكم على نفسك بقضاء مثله بعد عام بسبب هذه الخاصية، أكتفيتُ بالإشارة لهذا عند الغداء مع أهلي، لم يستغرق التفاعل دقيقة، لكنّه كان أحلى من ساعات إضافية أُسرفها على الشاشة!
هـ- إحساس الفقد، هم يُشعروك أن التخلِّي عن هذه المواقع يُفقدك شيئًا هامًا، حدثًا مهمًا لصديق أو شخصًا يُريد ان يتحدّث معك، اللعب على هذا الحبل مؤثّر جدًا، لكنّ لو عاملته بتجرّد فلن يكون ذا قيمة، عندما تتخلّى عن شيء، ستفقد حتمًا بعضًا من مزاياه، يجب أن تتأقلم مع هذه النقطة، وأنت بعد ذلك، لا تفقد الذي لا تراه.
3/حجة الأي فائدة.
عندما يقابلك قرار هام مثل التخلّي عن مواقع التواصل، أنت ستتشبّث بحجّة وجود فائدة ولو كانت قليلة، حتّى تصرف نفسك عن إتخاذ قرار من شأنه أن يقودك لتغيير صعب من هذا النوع، خصوصًا لو كان التعامل مع هذه المواقع عادة طبيعية عند أغلب الناس، ستتفنّن في إيجاد الفوائد لتبقى مع التيّار، لكن يجب ان تاخذ طريقًا آخرًا إن كنتَ جِدّيًا في التغيير: هل هذه الفائدة مقصورة على هذه المواقع؟ ألن أكون قادرًا على الحصول عليها بطريقة أخرى، أقل إستهلاكًا للوقت؟ كيف سأحدّد تعاملي مع الموقع للحصول على هذه الفائدة في أقل فترة زمنية ممكنة؟
كانت عندي مثل هذه الحجّة في سنتي الأولى في الكليّة، أن أبقى على الإنستغرام، كي ينفعني هذا على مستوى تكوين العلائق والصداقات الاجتماعية، حسنًا كان لهذا فائدة، عرفتُ عددًا استحقّت معرفتهم هذه التضحية، لكنّها لم تكن الطريقة الوحيدة لمعرفتهم، ربما لو شاركتُ في حدث إجتماعي واحد في الشهر، أو تواصلتُ معهم بشكل خاص، لحققتُ المراد بل وأكثر، ربما وطّدت العلائق أكثر من ردود مقتضبة على المنشورات اليومية. عندما تخليّت عن هذا الأسلوب في هذه السنة تحديدًا، وأصبح حذف الإنستغرام هو الخيار الافتراضي عندي، وأُعيد تنصيبه عندما أُريد أن أنشرَ شيئًا مهمًا (وبالتالي سيصعبُ عليَّ نشر الأشياء السخيفة) هكذا أبقيتُ على الصِلات، وأفادني الوقت في أمور أكثر إنسجامًا مع ما أُريد من نفسي، قرأت كتبًا أكثر، كتبت تدوينات عميقة ومفيدة، حتّى أنّي حفظت سورة آل عمران كاملة، من طوال سور القرآن، ولعلَّ الأخيرة هي ما فتحت عليَّ أفاق النور والصلاح. رغم هذا التقدّم، إلّا أنّي أتهاون في كثير من المرّات، وأحمّل التطبيق أكثر من المعتاد، فأنشر المُضحك والتافه، أو ما يَجيشني من الشعر، أُدافع عن نفسي هذا التشتّت بكلام معسول قُبيل: تجيشُ كباقي الناس فيَّ المشاعرُ! لكنّي يجب أن أكون أكثر صرامة من هذه الناحية، ولعلَّ هذه التدوينة وما صاحبها من قراءة، تُساعدني في ذلك.
4/ لا تتصفح اثناء الدراسة
عندما تنتقل من مهمّة الى أخرى، جزء من ذهنك يبقى مع المهمّة الأولى، لنسمي ذلك رواسب التركيز. فإذا كُنتَ مركّزا بشكل عميق على تلك المهمّة، لن تملك الكثير من هذه الرواسب، امّا لو كُنتَ مُشتتًا، سيلاحقك هاجس معروف، يخبرك أنّك لم تُتقن ما كان في يدك، هذا يستمرُّ معك عندما تنتقل الى المهمّة الثانية، هذا هو ما ترسّب من الأولى.
هناك فكرة تقوم حول هذه النقطة، انت تعرف أن استعمال مواقع التواصل أثناء الدراسة أمرٌ سيء، لكن ما نلجئ إليه أحيانًا، هو أنّنا نتبّع سلوكًا قهريًا عندما نحاول التركيز بشكل عميق، نأخذ دقيقة مثلًا لتصفّح الإشعارات أو الرسائل، لكنّ الأمر أسوأ ممّا تظن، ليس الأمر كنزولك لشرب شيء من الماء، أو تناول قطعة حُلوة، فأنت عندما تتصفّح، غالبًا ما تجد شيئا لا تستطيع ان تردَّ عليه، لأنّك قد قرّرت أن تُركز في عملك مسبقًا (هذا أفضل من الإستجابة وتضييع ربع ساعة إضافية) لكن هذا أيضًا سيخلّف رواسبًا عندما تعود للمهمّة الاولى، تؤثّر على عُمق العمل، وكفائته. ولعلَّك جرّبتَ.
5/لا تتصفح بعد انتهاء اليوم
حتّى بعد ان تنتهي أعمال اليوم، لا تهرع للمُشتّتات، بل خطّط لنشاطات مُفيدة. أضربُ لك مثلًا، الرياضي المحترف يحاول جاهدًا المحافظة على جسمه، ليس فقط داخل الملعب، بل حتّى خارجه. لأنَّ الإصابة في أي مكان ستعرقله عن المنافسة، كذلك الحال مع مهارة العمل بعمق، حتّى إذا كُنتَ تُخصّص وقتًا كافيًا للعمق في دراستك، لكنّك بعد هذا الوقت المحدّد ترتقي المشتّتات كخيّال بارع، قد لا يبدو هذا ضارًا، فأنت تستغل وقت راحتك! لكن على ما جرّبتُ شخصيًا، يومان هي أقصى فترة أستطيع أن أعمل بها بشكل عميق مع هذه الطريقة، اليوم الثالث سيكون ضحل الانتاج، أتهرّبُ فيه من كل شيء يتطلّب جهدًا ذهنيًا، هذا بسبب تراكم المشتّتات، كلما زرتَ مُشتِّت، انخرطتَ فيه أكثر، تخيّل أنّك نشرتَ شيئًا على احد مواقع التواصل، ستضلُ لقرابة يومين تزور الإشعارات، تردّ على المتفاعلين والمعلّقين، أو إذا وجدتَ حدثًا وأردت أن تُتابع تطورّاته – ويا للمفاجئة- كل الأحداث تتطوّر.
لذا، حتّى وجود المشتّتات في الوقت الذي لا يبدو ضارًا، يُلقي بظلاله على فترة التركيز التالية، ستخسر بذلك عامل الاستمرارية، وبحالتي هذه أخسرُ يومًا مهمًا من أيّام الأسبوع، هذا إن وُفّقتُ وعُدت سريعًا للتعويض في اليوم الثاني، خصوصًا إن الموضوع سيكون أكثر تعقيدًا عندما لا يُلاحقك أمتحان، أو موعد تسليم محدّد.
6/الاخبار والترندات
تعال فكّر ماذا حصل من ترندات منذ بداية العام: سجالات حول الف باءات العقيدة، أخبار سياسية تطفو على السطح تقسم الناس الى معسكرين، خبر وفاة فنان، قصّة تحرش، فيمنست تتباهى بشعر فخذها، قصّة تحرّش أخرى وسجال حول السبب: ملابس البنت أم أخلاق الرجل؟ زوج حرق زوجته، أعتداء على طفل، حادثة أغتيال، ترند جديد على سوء الخدمات، ثم تُعاد الكَرَّة، وأنا أعرف هذا لأنّي شاهدت كل هذه المواضيع، وانفعلتُ معها وعلّقت. يقول إبراهيم السكران أن هذه الأحداث أصبحت تعتمد على حجّة «كثرة الطرق» لا البرهان، حتّى كأنَّ تلك القضايا تكسب مشروعيتها كما تفعل الكتلة الفائزة بالانتخابات، تكرار الأصوات! لعلّكَ لاحظت وجود فترات زمنية يتكرّر فيها كل ترند، فتكرّر منشورات أن الحجاب ليس فريضة، أو أن الستر ليس وسيلة للصلاح، قد يُوحي لك أن هذا هو البرهان، وهو ليس من ذلك بشيء.
هناك ربما أحداث تستحق التفاعل، لا أحثّك على أن تكون بليد المشاعر، ولا أن لا تتعاطف مع هذه الأمور، لكن كم من هذه الأخبار يمسّك شخصيًا؟ كم كنت ستعرف منها لو ما كنت تملك هذه المواقع؟ كم سيعيقك هذا على جلسات للعمل العميق، أو على الأقل عن معالجة أقرب الناس إليك ومعرفة همومهم؟ حتّى وإن مسّتك هذه الأحداث شخصيًا، لنقل مثلًا ترند عن سوء الخدمات، وأنت تعرف أن الضغط الاجتماعي قد يصل إلى نتيجة، إذن لا تقم بهذا الضغط أنت! لا تتطوَّع في شيء يستطيع فعله مراهق عمره 12 سنة، دع هذا لبقية الناس! هذا هو النوع من الأعمال الضحلة الذي ذكرته في البداية، ركّز أنتَ على ما تستطيع فعله من الأعمال العميقة، أعمال لا يستطيع فعلها هذا المراهق، وتُفيدك وتُفيد سكان هذه الأرض أكثر من منشورات لا ترتقُ فتقًا ولا تآسي كَلِمًا.
ويَحسن أن أُشيرَ لتنبيه، لا تتعبّد اللامبالاة، لا تُظهر بزهو على الناس أنّك لا تنساق وراء الترندات، فتقول مثلًا: أفيقوني عندما ينتهي الترند. فياخذك العجب ويفترسك الشيطان، إنَّ للبشر أسبابًا للإنغماس في كل شيء، وكونَك أُهتديتَ لما هو أصلح لا يعني أن تتعالى عليهم، وأنت فوق كل هذا تُخالف هدف عدم تتبّع الترندات من الأساس; فالهدف هو توفير الوقت لما هو أقوم، لا فضيلة في هذا التباهي.
7/ لا تضغط على لايك
في أحد فصوله الشيّقة، كال نيوبورت في كتاب Digital Minimalist ينصح نصيحة رائعة: لا تضغط على زر اللايك، وحتّى تفهم ما يعنيه، يتعيّن أن أذكر بناء فصل الكتاب. الإنسان كائن إجتماعي، الوضع الاجتماعي للإنسان مهم جدًا، لذا يُعادل ألم الفقد أو الهجر الآلام الجسدية أحيانًا، وكلّما شعرَ الشخص بالفراغ من مهمّة عقلية متطلّبة، هرعَ عقله إلى التفكير بوضعه الاجتماعي، علائقه بالناس، ومدى مقبوليته منهم، وهذه النتيجة تنسجم مع الطبيعة البشرية، أنتَ لن تستهلك وقتَ فراغك في شيء لا يهمُّ حياتك. مواقع التواصل استغلّت هذه النقطة أيضًا، استغلّت الدماغ المتلهّف للصِلات، لدرجة جعلتك لا تُفرِّق عندما تمسك هاتفك، بين اهميّة أخيك الصغير الذي أمامك، وبين صديق قريبك الذي تصوغُ له ذلك التعليق! وقد تظن أنّك بهذا حققت هدف التواصل، فأنت شخص إجتماعي يضع إعجابات على صورة صديقه، لكنّ هذا لا يتعدّى فصّك الجبهي، تلك التركيبات المعقدّة في عقلك لا تفهم هذا، لا تعرف علاقة هذا الزر بالتواصل المُنتج، لم تُخلَق لهذا. كأنّكَ تناولت حبّة أسكنت إحساس الجوع، لكن جسمك يتتوّق للغذاء.
هناك فرق بين المحادثات وبين ابقاء الصِلات، الأولى تتطلّب أن تعرف المقابل، تتحسَّس لغة جسده، وصوته. لحسن الحظ دماغك مُدرَّب على فهم هذه الأمور، هذا ما يحدث في الحياة الحقيقية، ربما يحدث في المكالمات المصوّرة أيضًا إذا أستعنّا بالتكنلوجيا، أما غير ذلك فيندرج في رف إبقاء الصلات، علامة إعجاب على الفيسبوك، مُجاملة لطيفة في تعليق على الإنستغرام وغير ذلك ممّا تفهم. هذه أمور لا تُعادل عُشر الفائد. وتوظيفها كبديل للمحادثات أمر يشابه في -سوءه وإهانته لما يملك الدماغ من قدرات- ما فعله روّاد الشعر الحر بالشعر العربي العمودي العظيم، كأنَّك تطلب من فيراري المشاركة في سباق آلات حرث صدئة!
لذلك يدعو نيوبورت إلى التخلّي عن هذا الإسلوب، لا تُشارك في هذه الإهانة، لا تضع لايك على منشور ولادة طفل لأحد الأقارب، بل إتصّل به وهنّئه، أو حضّر له هدية وزره في بيته. ستفيد حياتك الاجتماعية -إضافة إلى الصحيّة- أكثر من أُلوف الإعجابات السخيفة، وقد تقول أنَّ هناك من إنقطعت علائقك بهم، ولم تبقَ إلّا هذه العلامة لإبقاء الصلة، دعهم! نحن لسنا مكيّفين للتواصل مع هذا الكم من الناس، ولعمرك لا أظنُّ أنَّ في هذا شيء من الثواب، صلة الرحم تريدك أن تأخذ وتعطي، لا أن تقدّم اكثر معلومة سخفًا يمكن أن يقدّمها شخص لآخر على مرِّ التأريخ: أنا مُعجب بهذا المنشور.
يبقى شيء في المنطقة الرمادية، الرسائل النصيّة المطوّلة، كيف تُعامل؟ وأين هي في النقاش؟ ما يدعو له نيوبورت -وأقنعني به على الطريق- هو أن توظّف هذه المواقع لخدمتك، لا أن توظّفك هي لصالحها، قد تحتاج لإرسال رسالة قصيرة لتدبير موعد، أو تسهيل جلسة، لكن لا تُسرف في التعويل على ذلك، حتّى أنّه ينصح أن تلغي الإشعارات من التطبيقات التي تقدّم هذه الخدمة، ثم تزوها مرّة في اليوم لتُجيب على ما يُرسل لك، كما تُعامل الإيميل، لن يفوتك شيء، ستحتفظ بتركيزك على العمل بعمق، وتُحثّ أصدقاءك على أن يجدّوا في مواصلتك بالطرق المفعمة نفعًا ومعنى. وينبغي أن أُشير إلى إستثناء خاص، هذه الطريقة لا تُطبَّق على الغواني الحِسان، خصوصًا لو كان فيهن ما يُعجب من التوقّد والنبوغ، وقد حذّرتُك!
8/ أحصل على أخبارك ببطء
أجدادنا كانوا حكماء عندما أطلقوا «خبر اليوم بفلوس، باجر ببلاش!» مثلًا. عد إلى الإسلوب القديم في الحصول على الاخبار، ربما جريدة تعرفها، أو موقع واحد، تابع مقالات كاتب تثق به، لكن لا تحصل على أخبارك من منصّات التواصل، حتى الأخبار الموثوقة منها تميل لأن تكون مُقتطعة، وغير كاملة، هكذا يكسب صحفيّو هذه المواقع إنتباهًا ومتابعة، توالي هذه الأخبار قد يُشعرك بأنّك مُطلّع، لكنّك لا تحصل إلّا على فُتات، والفتات هذا أغلى (بمقياس الوقت الذي تستهلكه) من جلسة واحدة تتزوّد فيها من الأخبار المهمّة من موقع هادئ، بعد فترة من الحدث، هذه التقارير تميل لأن تكون كاملة، تُحيطك علمًا بالموضوع، في جو هادئ بعيدًا عن مناوشات كل طرف.
9/خطّط لوقت التصفّح
عندما ذكرتُ تجربتي مع الإنستغرام، قلتُ أنّي أمسح التطبيق دائمًا، حتّى لا يكون خيار تصفّح قصص الناس هو الشيء الافتراضي الذي أفعله عندما أملُّ، لكنّي لم أمنع نفسي منه تمامًا، عندما استخدم هذه الطريقة المتطرّفة، هذا سيدفع عقلي لإيجاد الأعذار، أو ربما تصيّد اللحظات السيّئة: هاك أنظر! لقد حصلت على 7 في هذا الإمتحان، الإنستغرام لم يكن السبب، أرجعه! هكذا كُنت أفكّر في الثانوية عندما أعطّل حساباتي، أمّا الأن، فالدرجات ليست بذات الأهمّية، وما يهم أن تتبّع الأهداف التي تُثري حياتك معنى. لكن المربط هنا، أنّي أُخطّط لوقت العودة، أجدول الأوقات التي أستطيع أن أنشر فيها، منشور لإعلام أصدقائي بالمقال الجديد، أو مقتطفات من قصيدة لبدر الدريع قبل العاشر من مُحرَّم، هذه هي الخطّة. لن يغويني دماغي بالحجج لإستخدام التطبيق عند أقل محفّز. عندي أوقات للنشر، والفراغ الباقي يُستخدم لما هو أهم، وما هو أقوم معنى ونفعًا.
10/ تحتاج للتغيير لا الراحة.
من أهمّ الأفكار التي تعلّمتها مؤخرًا، هي أن العقل لا يحتاج للراحة – فيما عدا النوم الكامل والمقيل- بل يحتاج إلى التغيير، تستطيع أن تُغيِّر من مهمّة تتطلب مجهودًا عقليًا قويًا إلى مهمّة أدنى منها، وتعتبر هذا وقتًا للرفاهية، أنت لا تحتاج بالضرورة لتنزل لمستوى سفيف من استهلاك الوقت كالتصفّح السلبي، عليك فقط أن تجد نوع من التغيير الايجابي، الذي يستهويك ويقدّم لك معنى مفيد في حياتك، فأستطيع أن اتنقل من جلسة دراسية تتطلّب مجهودًا ذهنيًا حادًا كدراسة التشريح، إلى شرح لكتاب دلائل الإعجاز للأستاذ محمّد أبو موسى، من دون أن يؤثِّر هذا على جلستي الدراسية الثانية، في الواقع، هذا جعل لها معنى أعمق، بالانتباه الى لطائف التعبير القرآني، ممّا لو رأيتُ شكوى صديقي من صعوبة الأناتومي على الإنستغرام!
لا أعتقد أنّك ستجد مقاومة كبيرة، أعني أنّك لو التزمتَ بالنقاط المذكورة لفترة معتبرة، وعدتَ في يوم إلى تصفّح هذه الشبكات، لن تشعر بطعمها، ستستغرب أنّك قضيت عليها وقتًا طويلًا مثل هذا، لن تملك تلك القصص والترندات الجديدة مخلبًا تجذبك إليها مثلما كانت تفعل. الانتباه لآخر نقطتين هو ما جعلني أكتبُ مقالًا بهذا الطول – وما صاحبته من قراءة أطول- فإنّي لو عاملتُ وقتًا مثل اليوم الذي أعود فيه من الإمتحان كما أفعل عادة، الذي كنتُ أعامله على أنّه وقت ميّت، أُسرف فيه من التصفّح، لما وصلتُ إلى شيء، بل استغلاله بقراءة هذه الكتب، ومن ثمَّ التدوين حول الموضوع، قدّم لي المعنى، فالشعور بأنَّك قدّمتَ شيئا مفيدًا ووضعته أمام الأنظار، يحقّق لي نوعًا من الرضا يجعلني أكثر إستعدادًا للعمل بعمق للإمتحان الثاني، وبعد كل هذا، فما كتبته هنا نظّمَ أفكاري، وجعل فرصة تطبيقها أكثر. هذه راحة سأسعى لها مستقبلًا، أكثر من راحة آلة تشتّت، لأنَّ الحياة بتركيز، هي الحياة الوحيدة التي تستحق العيش.
وفي النهاية، علينا أن نضع في حسباننا، ليس فقط ان الحياة تنقضي ورصيدنا الباقي يتناقص، بل حتى قُدرتنا على فهم العالم وتأملّه، القدرة على التركيز والحفظ، كل شيء من هذا يتناقص ايضًا، لنُعجّل إذن بإستغلال هذه القدرات قبل ان تزول قبلنا. وكما يقول جدّنا أمير كندة امرؤ القيس بن حجر:
فلو أنّها نفسٌ تموتُ جميعةً … ولكنّها نفسٌ تَساقطُ أنفسًا
1-مقالتي: أنكي وتذكر كل شيء – التكرار المتباعد ودراستي في الطب
3-مقالة تريستان هاريس حول مواقع التواصل