في عالم مليء بالفوضى، في المدن الكبيرة التي تعجّ بالناس، وخلال الثورة التكنلوجية التي نشهدها حيث تصلك أخبار أي شخص في أي مكان في هذا العالم في ثوانٍ، دائما ما تجدُّ شخصا ما في مكان ما أكثر منك مهارة، أكثر منك عِلما، أفضل منك في كل شيء تفعله، الذكاء والمهارة لم يُوزعا بالتساوي على الناس في هذا العالم الظالم.
صوت في داخلنا يعرف كل هذا، ولان القاع مظلم، بارد. لا أحد يحبُّ أن يبقى فيه، أو على الأقل لا أحد يحبُّ أن يعتبرَ نفسه في القاع، لكن مع ذلك، للمفارقة، الجزء الأكبر من الناس يستوطنونه. ماذا نفعل بشكل خاطئ؟ كيف يمكن أن نتجنّب هذا الظلام؟
في البداية، توضيح ضروري، جزء كبير من هيكلية مقالي يعتمدُ بالدرجة الأولى على كتاب جوردان بيترسون القيّم ” 12Rules for life” وخصوصا القانون الرابع الذي ذكره، وأعتمدتُ أيضا على النقاشات حول هذا الكتاب، وصوت بيترسون نفسه قارئا لهذا الكتاب، وشارحا لبعض أفكاره فيه.
لكن مع هذا، ليس كل ما في الكتاب سيذكر هنا، لستُ مترجما حرفيا ولا أحب أن اكون، أنا أنقل الأفكار وأصبغها بتجربتي وأقدّمها هنا، لأنّي مسؤول عمّا أقوله أنا فقط، لا غيري.
العين والأهداف
ما نرغبه من أهداف نسخّر له أعيننا، لا داعي لذكر تجارب علمية أُجريت فعلا حول هذه النقطة (1) فخير أسانيد المرء تجاربه، كم من المرّات كُنتَ منغمسا في شيء لدرجة نسيتَ ما حولك من أشياء؟
تعلّمنا في محاضرات الهستولوجي أن العين تتألف من عدة طبقات، الطبقة الداخلية تُدعى الشبكية، الجزء المسؤول عن تحويل الضوء الى إشارات كهربائية تسلّمها الى العصب البصري ليفهمها الدماغ، ولكي تستطيع الشبكية فعل ذلك، تحتاج الى خلايا متخصصة، نملك نوعين من هذه الخلايا، متوزّعة بترتيب غير متساوي، أحد الانواع وهو النوع المخروطي يتركّز في بقعة صغيرة مركزية في الشبكية، هذا الجزء مسؤول عن الرؤية عالية الدقّة. يساعدنا على التعرّف على الوجوه وغير ذلك، لكن ما يتطلّبه هذا الجزء موارد دماغية كبيرة جدًا، فعندما تبدأ بمعالجة ما يُنتجه، فدماغك يحتاجُ الى ما يقارب عشرة آلاف من الخلايا العصبية في جزء القشرة الدماغية التي تختص بمعالجة الإبصار في المرحلة الاولى، ثم مثلها لكل واحدة من الخلايا الأولى. هناك حكمة من عدم تألّف كل الشبكية من مثل هذه البقعة الصغيرة، لو كانت كذلك، كنّا نحتاج لجمجمة أضعاف حجم التي نملكها حاليا لاستيعاب دماغنا.
أذن الموارد غالية ومحدودة، لذلك علينا أن نركّز في أشياء محددة نهدف لها، ونترك الباقي مختفيا بهدوء في الخلفية، وبالفعل هكذا نتعامل مع العالم، وهو التصرّف الأحكم، نحن نهتم بأشياء دون الأخرى، الرؤية عالية الدقة هذه تتطلّب ثمنا، وما ندفعه جرّاء استخدامها هو التغاضي والعمى عن بقية الأشياء التي لا تقع ضمن نطاقها. تذكرّت حلقة من حلقات HIMYM، حيث مارشال أيركسن ينظر الى ليلي وحدها لا غيرها لأنّه يحبّها (2). مارشال، هذا ما يحدث عندما تركز على شيء واحد.
الثمن الذي ندفعه مقابل الأشياء قد يعود عليك بالنفع إذا استعملنا هذه الأشياء بشكل صحيح، فعلا أنت تحتاج مثلا لتعلّم مهارة بإتقان أن ترّكز عليها وحدها، خذ مثلا كتاب The Only One Thing الذي يشرح هذه الفكرة بشكل عظيم، لكن ماذا لو لم نستعملها بشكل صحيح؟ ماذا لو استخدمنا هذا النظر لرؤية أشياء ليست لنا، رؤية أشياء لا نستطيع الحصول عليها، ماذا لو استخدمناه لرؤية أشياء وجعلنا الأشياء الأهم تختفي في الخلفية؟ الأشياء التي نحتاجها حقّا؟
هذا ما نفعله عندما نقارن انفسنا بالأخرين، عندما تحسدُ صديقك مثلا أو مديرك في العمل وتتمنّى أن تحصل على وظيفته وحياته، حسد الناس على ما آتاهم الله من فضله أمر مذموم في الدين والسُنّة، لكن حتى في الحياة العملية، المقارنة ليست عادلة، قبل كل شيء، ليست هناك لُعبة واحدة في هذه الحياة، هناك مجالات ونطاقات عديدة نستطيع ان نُنافس فيها، والنجاح لا يُحسب ضمن المجال الواحد فقط، بل هو معدّلك في جميع هذه المجالات، لا يجب أن تفوز بكل شيء، لستَ مهيّأ لهذا أصلا، وحتى إذا فزت بكل شيء، قد يكون هذا لأنّك لم تلعب العاب صعبة، لم تختبر نفسك فعلا.
هل ندركُ فعلا ما نفعله في هذه المقارنات الفاسدة؟ أننا نختار شخص رائعا بحق، ونحصر المقارنة في نطاق واحد وكأنّه هو المجال الوحيد للنجاح في هذه الحياة، ثم نستنتج من هذه المقارنة إنَّ الحياة ظالمة!
يذكرني هذا بمقولات ماركوس أوريليوس الرواقية في كتابه التأملّات، في أحد ثيمات ” أزل الحكم، يزول الأذى” يقول:
لا يمكن للأشياء ذاتها أن تمسَّ النفسَ أقلَّ مساس، ليس لدى الأشياء مدخلٌ الى النفس، وليس بمُكنتها أن تديرَ النفس أو تحركها، إنّما النفسُ تديرُ ذاتها وتحرّك ذاتها، وتقيمُ لنفسها ما تراهُ ملائما من الأحكام على ما يعرضُ لها من أشياء.
وللإستدلال على فساد هذه المقارنة أيضا، أنت تُقارن نفسك بشخص لا يملك نفس ظروفك ولا خلفيتك، كلُّما نكبر كلّما نكون أنفسنا أكثر، أنا حمزة حاليا أكثر من حمّزة قبل عشر سنوات، في ذلك الوقت كنتُ مثل فاروق الذي كان يُنافسني على درجات الإبتدائية، كنا في صف واحد ويدرّسنا مدرس واحد ونملك لدرجة ما نفس الظروف الدراسية، هنا قد تلوم نفسك فعلا على عدم حصولك على درجة أعلى من فاروق، لأنّك ربما لم تبذل جهدا أكثر منه، حتى الان، معظم من يقرأ مقالتي هذه بحكم نشري لها على حساباتي، سيقرأها وهو يملك ظروفا متشابهة معي، صديقي في الكلية أو مقارب لي بالعمر، لكنّنا بعد سنوات سنملّك ظروفا خاصة أكثر، من الإختصاص المهني، العائلة، الظروف المعيشية والإقتصادية وغير ذلك ممّا فهمته.
وهنا يأتي الحلُّ كاشفا اللثام عن وجهه ومتمثّلا ببيت سحيم بن وائل:
أنا أبنُ جلا وطلّاع الثنايا … متى أضع العمامة تعرفوني
الحل أن تقارن نفسك بنفسك أمس، هذا هو المعيار الحقيقي الذي يحدّد التقدّم، لإنّك بهذا حقّقت معيار التماثل، من أشبه بك غيرك؟ تماما كما نفعل عندما نختبرُ الأدوية (3) ونحقق هذا المعيار، ومن ثم لا أحد يعرفك بقدر نفسك، اطلب المساعدة منها بلطف، لو كنّا نتخّذ 500 قرارا في اليوم، ونفعل 500 شيئا صغيرا، سنتحسّنُ حقّا لو فعلنا شيئا او شيئين بشكل أصح من اليوم الماضي، سيُعطي هذا ثماره على المدى الطويل، دائما هناك فرصة لفعل شيء إضافي يجعلك أفضل،إلّا إذا كنتَ مثلا في التسعين من عمرك ومصاب بالزهايمر، حسنا لا يوجد الكثير لفعله، لكن في أغلب الأحيان، لديك الفرصة. حتى إن هذا الفعل لا يتطلّب تغييرا هائلا، ولكون عوائد النجاح ليست خطيّة بل متراكبة، فهذا امر يستحق الاستثمار فعلا، إقرأ كتاب Atomic Habits لجيمس كلير، سيوصل فكرته بشكل أعمق منّي.
لن يبقى سوى هذا: حصنك الصغير الذي بين جنبيك، فأوِ إليه… حيث لا كرب، على الأقل ولا وَصَب، كن سيّد نفسك، وأنظر الى الأشياء كرجل، كإنسان، كمواطن، ككائن فانٍ. وبين أسرع الافكار تلبيةً وإسعافا لك إتجه الى هاتين: ألاولى: أن الاشياء لايمكنها أن تمس العقل، إنّها خارجية وخاملة، والإضطرابات لا تأتي إلّا من رأيك الداخلي، والثانية: إن جميع تلك الأشياء التي تراها حولك ما تكاد تنظرُ اليها حتى تتغير ثم تزول. وأعتبر دائما بكل ما شهدته بنفسك وقد تغيّر وزال، العالم هو التغيُّر… والحياة هي الرأي. (ماركوس اوريليوس)
طريقة يقترحها بيترسون لتجنّب المقارنة وتحويل نظرتنا للأشياء بعيدة المنال الى خطوات عملية تساعدنا على التقدّم، مثلا عندما تحسد شخصا على وظيفته ومكانته، كيف ستتصرّف؟ أولا إن طموحك هذا أمر فاضل، لا يمكنك التخلّي عنه، فاذا أردتَ وظيفته اذن عليك أن تطبّق الخطوات المُمكنة، الخطوات التي لا تجعل حياتك بائسة، بل أختر شيئا مُمكنا يجعلها أفضل.
فاذا لم يمكنّك هذا من الحصول على تلك الوظيفة، فأختر هدفا أقل تطلّبا، واتبّع الآتي: ماذا يمكنك أن تفعله، بحيث يمكنك أن تفعله، بشكل يجعل حياتك أفضل ولو قليلا؟ أنت بهذا على سكّة أفضل وطريق واعد. وإبدأ بالتطبيق، هذا أهم شيء، لأنّك بالتطبيق تُغيّر، ليس فقط في الواقع، بل في شخصيتك وهوّيتك، كلمّا فعلتَ شيئا أكثر، كلُمّا أثّر هذا في شخصك، العادات تغيّر في الشخصية وهذا يقودها الى البقاء أكثر. (4) وتذّكر أيضا أنك لا تستطيع أن تحصل على كل شيء بمجرّد تمنيّه، فللعالم حدوده التي يفرضها عليك وما كلُّ ما يهوى أمرؤ هو نائله.
يُقدّم بيترسون أيضا مع هذه النقاط نظرة تخيّلتُ حجم المعارضة التي سيُلاقيها عندما كنتُ أسمعه يقرأ الكتاب، وفوجئتُ أن من يعارضها يقرُّ لها بالصحّة أيضا بشكل عام.
إنَّ للدين أثر مهم في تحديد أهدافنا ووضعنا على السكّة أيضا في الحياة العملية، فالفلسفة الاخلاقية تحدد المعايير الأخلاقية بين الصواب والخطأ، الدين يفعل هذا بشكل أعمق ويحدّد الخير والشر، فحتّى تكون شخصا أفضل، يجب ان تفعل الأشياء الصحيحة، هذا ما يعترض عليه اللبراليون، يعترضون على العبودية والطاعة، لكن هل ستستطيع فعل شيء ذا قيمة اذا كنتَ مشتتا الى هذه الدرجة؟ ما فائدة وجود نظام اذا لم يكن يهدف الى الارتقاء الى هدف أسمى؟ بالنسبة لي -حمزة- كمسلم، الأمور الصحيحة التي يجب أن أفعلها هي عبادة الله وحده لا شريك له، ومن ثمَّ الإصلاح في الأرض، هذه سكّة تحدد لي طريق البداية، ومن ثم فالدين ليس مسؤولا عمّا سأفعله في النهاية، وإلّا فقد كان الحجاج مسلما يُصلّي، وكان يعتقد في داخله أنه يُصلح في الدنيا، ولم يفعل إلّا الفساد.