تغرق الكثير من المجالات في هذا العالم بالهراء، تستطيع أن تُعيّن الكثير منه بمجرد رؤيته، ذا سيبمسونز تنبّأ بفيروس كورونا قبل 27 عاما(1)، أو اليانسون يعالجه (2).
لكن ما أريد أن اتحدّث عنه اليوم هو نوع أخر من الهراء، هو هراء مصبوغ بصبغة تقدّمية، صبغة علمية، هذا النوع من الهراء خطير جدًا، لأنه قد يعلّق حيوات الناس حوله.
العلم عظيم، لكنه ليس مقدّسا، فالكثير من الأبحاث التي تدّعي العلمية والموضوعية هي ليست كذلك بالضرورة، الذي يُقدّس كل بحث علمي يراه فهو غِرّ ضِلّيل، لا أقصدُ من هذا التقليل من الخطوات العلمية، فهي قائمة على أرضية صلبة، لكن أحثُّ على أن نتزوّد بكاشفات تُبين الهراء عند رؤيته، تحددّه وتعيّنه.
سأعتمد في هذا المقال على فصل من عالم تسكنه الشياطين لكارل ساغان وعلى كورس Calling Bullshit المقدّم من قبل جامعة واشنطن والذي يتوفر على قناتهم على يوتيوب، كان هذا الفصل يُعطي درجة واحدة في التقييم، لكنّه يضع أساسًا لمن يقدمُ على التعامل مع العلم حياته كلها، ما يؤسف أننا في كليتنا نختار موادًا لا تُساعد الطبيب ونقيّمها بهذه الدرجة، حقوق الإنسان، الديمقراطية ونصوصًا عربية وإنجليزية أدبية لا تُجدي.
مقدار الطاقة اللازمة لتفنيد الهراء أكبر بكثير من الطاقة اللازمة لبدءه. – براندوليني
قانون براندوليني هذا أصح بداية لموضوعنا، إنتاج الهراء والأشاعات لا يتطلّب مجهودا كبيرا، لكن عندما ينتشر، يحلّق عاليا في السماء، قد تتبعه الحقيقة بعد ذلك، لكنها تلحقه بقدم عرجاء.
زهير بن أبي سلمى كان يُهدّد قومًا بأنّه سيهجوهم إذا لم يُعيدوا أسيرًا، فكان نص التهديد
فإّنَ الشعرَ ليس له مردٌ … إذا وردَ المياهَ به التِجارُ
زهير يعرف أنَّ الهجاء ليس صحيحا بالضرورة، لكنّه كان يعرف أثر الشعر في الناس قديمًا، وكان يعرف إن انتشاره عندما يلتقى التُجار عند سقي إبلهم لدى موارد الماء أمر لا مفرَّ منه. هذا بالضبط ما يحدث مع وسائل الأعلام في عصرنا الحالي.
كم من الخرافات تنتشر في مُحيطنا ونعرف أنّها كاذبة، لكنّها راسخة في صدورنا، بل وحتّى لا نتجرّأ أن نفنّدها، من ذلك الأبله الذي سيحاول إثبات عدم وجود جن تحت الأرض وإنَّ القفز بقوة عليها – بالقفز عليها- لن يضرّك ؟
الكاذب والهارئ
الكاذب هو الشخص الذي يعرف الحقيقة لكنّه يحاول أن يُقنعك بشيء مختلف
الهارئ هو إمّا لا يعرف الحقيقة، أو لا يهتم، يريدُ أن يُقنعك بما يُريد فقط، يُريد ان يُقنعك أنّه يعلم ما يتحدّث عنه، يريد أن يكون مصدرًا للإهتمام
الترابط والسببية
ظهر قاسم الملاك في مسلسل العرضحالجي في مايو 2019 فكان عدد وفيّات المطربين حول العالم حسب ويكيبيديا 16 شخصا، في الشهر الذي يليه زاد عدد وفيات المطربين الى 20، بفارق 4 وفيات، في شهر عرض مسلسله التيتي 2013 كان الفارق 6، بل حتى مع مسلسل الدرس الأول في 2012، كان الفارق بين الوفيات 8 بعد انتهاء المسلسل.
هل لقاسم الملاك سبب في تقليل وفيات المطربين حول العالم؟ وهل كلّما كبرَ ممثلنا القدير أصبحت قدرته على تقليل الوفيّات أقل؟ أمثله أكثر من هذا النوع تجدها هنا (3)
هذا مثال فيه تهكّم عن قضية مهمّة، إذا حصل شيء بتزامن مع أخر أو بعده، هذا لا يعني أن الأول سبّب الثاني، قد يكون هناك سببًا عامًا للموت، وهو أنه عملية طبيعية.
عندما تُشاهد هذا النوع من الإدعّاءات، تحرَّ أولا عامل المصادفة، الكثير من الأشياء في هذا العالم تحدث بالصدفة، ثم تحقّق من أتجاه السببية، هل مشاهدة الأطفال لأفلام عنيفة تكون السبب في عُنفهم أم إن الأطفال الذين يملكون ميلا عنيفا يميلون لمشاهدة هذا النوع من الأفلام؟ أم كليهما؟
بل وحاول أن تُشاهد الصورة من أعلى، خذ مثلا شراء الأهل ملابسًا للأطفال قبل إنجابهم، هل نستطيع القول ان شراء الملابس كان السبب في ولادة الأطفال فقط لأنه حدث أولا؟ عادة ما يكون هناك سببًا عاما مثل الحمل في مثالنا هذا سبّب شراء الملابس وإنجاب الأطفال.
يوم أمس كنت أحضّر لهذا المقال في غرفة الجلوس، كان أبي يُتابع مباراة ريال مدريد وريال سوسيدات في كأس الملك، لم أكن منتبهًا للمباراة، لم أعد آبه بريال مدريد منذ خروج كريستيانو، لكن والدي ينزعج من هذا أحيانا، يريد إستعادة إبنه الذي يشاركه نفس الشغف في السابق، تأخر ريال مدريد بـ 4-1، فأمتعض من ذلك ووضع السبب في إبنه الذي لا ينتبه على المباراة. بعد مغادرتي الغرفة بدقيقتين، سجّل ريال مدريد هدفين، ريال مدريد خسروا 4-3، لكنّ والدي إنتصرَ في دعواه.
كن تهكمّيا في التفنيد
عندما يُحاول أحدهم أن يُثبت لك ترابط أمرين بطريقة سببية وقدّم لك الطريقة التي توّصل إليها لهذا الإستنتاج، فخذ نفس الطريقة وجرّبها بطريقة سخيفة، إذا وصلت الى نتيجة مماثلة فهذا يعني أنّه كان يبيعُك هراءً.
لنأخذ مثالا، إدّعى عدد من العلماء أن هناك تغيّرا في النشاطات الدماغية لدى مرضى إنفصام الشخصية عند ممارسة بعض النشاطات عنه لدى الناس العاديين، توصلوا الى النتيجة بإستخدام جهاز fmri. لكن هذا الجهاز يُعطي نتائج إيجابية كاذبة في بعض الأحيان، ومع جهاز معقّد مثل الجهاز العصبي الذي يحوي على عدد هائل من الخلايا، فالحصول على هذه النتائج أمرٌ لا مفرَّ منه. إصرارهم على صحة النتائج دفعت علماء أخرين لتنفيد دعواهم بتجربة طريفة.
جلبوا سمكة سلمون ميّتة، لم يعرفوا إن كانت ذكرًا أو أنثى، لأنّها ميّتة ولا يهم، وضعوها داخل نفس الجهاز، طلبوا منها أن تفكّر في موقف معيّن، وأن تحاول جاهدة بالتركيز على مشاعرها عن تذكر هذا الموقف، فوجدوا نشاطًا دماغيا لهذه السمكة لا يُستهان به
العبث بالمحاور
هناك طريقتان للعبث بالمحاور، أُسمّيها التقريب والإبعاد الزائدين، فمثلا في التقريب الزائد، يحاول المصمم – الذي يضع تصميما جذّابا عادة- خداعك بالتقريب على الفارق بين الأمرين، فلا يبدأ محور (س) مثلا من الصفر، بل يبدأ من المنتصف أحيانا.
هذه الصورة من دعاية لباراك أوباما في 2017، شاهد كيف تجاهل البداية من الصفر، فارق الـ 3% هذا يبدو أكبر من الواقع، وفارق 80% عن 75% استخدم أكثر من ضعف عدد الكتب!
الطريقة الثانية هي الإبعاد الزائد، تضمين فترات زمنية كبيرة بحيث لا تُلاحظ أي فارق
هذه الصورة مثلا، المخطط الوحيد للتغيّر المناخي الذي تحتاجه، شاهد الإبعاد الزائد الذي بيّن أن لا تغيّر مناخي يحصل.
قارنها بهذه الصورة من ناسا
تجاهل عامل الزمن
هذه الصورة تتحدّث عن العمر الذي يموت فيه الموسيقي عادة حسب نوع فنّه، يبدو الذي يعزف الجاز يعيش عُمرا طبيعيا، لكن ينخفض العمر الى النصف تقريبا عندما يتعلّق الأمر بالراب والهيب هوب. ما الذي حصل هنا؟ بالطبع هذا الفارق يبدو أكبر ممّا يمكن أن يبدو حقيقيًا
الذي أجرى الإختبار إستثنى الأشخاص الأحياء، لأنّك لا تعرف كم سيعيشون، سيؤثر هذا على مصداقية التجربة، لكن هناك عامل أخر مهم، الفنون هذه تختلفُ عمرًا، الجاز فن قديم، والراب حديث نسبيا، فمعظم الذين يعزفون على الجاز عاشوا حياة طبيعية، وماتوا طبيعيا، قسم منهم مات بحوادث او انتحار، لكن ليس فارقا مهمّا، لكن الفارق أصبح مهمّا عندما تحدّثنا عن الراب، لحداثته، فمعظم الذين يغنوّنه لم يموتوا بعد، فأُستثنتهم التجربة، وعدّت الغريب الذي مات بعمر صغيرة.
التهويل من فائدة البيانات الكبيرة- Google Flu
قبل أعوام، ادّعت Google أن بأمكانها أن تتوقع أكثر المناطق المصابة بالإنفلونزا في أمريكا من خلال محرّكات البحث ومن ثم مساعدة الجهات المعنية في تقديم اللقاحات، حاولت أن تستخدم ذكاء محرّكاتها وتعرف أعداد المصابين من خلال بحثهم على محرّكات البحث بكلمات مفتاحية معينة، مثلا (ألم مفاصل، رشح، سعال ألخ)، الإدعاء يبدو أفضل ممّا يُصدّق
ما حاولت Google أن تفعله هو تطبيق مقولة: يمكن لروث البقر الكثير أن يحوي عملة معدنية. كعادة من يحفل بالبيانات الكبيرة والذكاء الإصطناعي.
إفترضوا أن كلّ من سيُصاب بالإنفلونزا سيبحث عن أعراضه، وثمَّ أغفلوا حقيقة أهم أنّ الكثير من الناس تعتقد أنّها مصابة بالإنفلونزا لكن في الواقع تكون إصابتهم بفيروسات أخرى، الذكاء الاصطناعي يحتاج لبيانات، واذا كانت البيانات هذه غير صحيحة، سيُخرج نتائج مثلها، للمفارقة، مشروع Google Flu فشل في تحديد انفلونزا الخنازير بعد إطلاقه بأسابيع، بل ولم يُحقّق نتائج صحيحة إلّا في 8 أسابيع من أصل 108. حاليا الموقع أُغلق ولم يعد موجودا.
عادات عقلية مهمّة
- أفضل أو أسوأ ممّا يصّدق
هذه أهم عادة، هناك الكثير من الإدعّاءات تُثير الشكوك حول نفسها بالمبالغة. - إحذر من التحيّز
فقط لأن نظرية دعمت وجهة نظرك، لا يعني أنّها تخلو من الهراء - إختبر أكثر من تفسير
إذا صمد التفسير أمام الفرضيات الأخرى فهو صحيح - من الذي يُريد أن يُقنعك؟ كيف يُفكر؟ لماذا يُريدك أن تصدّقه؟
خاتمة
تذّكر إن العالم في فوضى، أنت أصغر من أن تُصارع الفوضى حولك وحدك، لا تدخل في معارك لتفنيد كل هراء تراه حولك، إختر ما ينفعك تفنيده.
قد لا يكون من الحكمة أن تُطلق حكم الهراء على ما يُعرض لك من معلومات مُضلّلة من دون التساؤل حول الأدلة التي قدّمها الباحث، أو تعييّن الأسباب التي دعتك لأطلاق هذا الحكم، فما نهدف إليه أولا وأخيرا هو أن تكون المعلومات التي نملكها قويمة تصمد أمام النقد، وليس الهدف التفاخر والتشدّق بكلمة “هراء”.
ومن الحكمة أيضا أن تعرفَ ما يريدونك أن تُصدّقه، أن تضع هذا في الحسبان، فهو عامل ضروري في تحديد الكثير من المغالطات، لكن تجنّب أن تخلطَ بين الشخص وفكرته المُضلِّلة، ليس كل مُضل ضال، فقد يكون موهومًا.