تعرفّت جديدًا على مهنّد، اخبرني أنّه يقرأ تدويناتي وأطراها، وتنبّه أنّي توقفت على الكتابة لفترة طالت، ولا طريق أقصر لقلبي من الذي سلكَه الرجل. هذه التدوينة لعيونِ مُهنّد!
عُدنا في الفترة الأخيرة إلى الدوام الحضوري، وإلى الأيّام الطويلة في الكلية، وبعد كثافة الحضور في الأيّام الأولى، وجدتُ أصدقائي يتساقطون بعد كلِّ محاضرة، حتّى تنبهتُ في المحاضرة الأخيرة أنّ الحضور لا يتعدّى الثلاثين، في قاعة يُفترض أن تحمل ما يزيد على المئتين.
لستُ ممّن يُشغف حبًا بكلِّ المحاضرات، خصوصًا النظرية منها، لكنِّي أحاول دائمًا، مهما بلغت حالتي الذهنية من السوء، أن أحصل على شيء جديد من المحاضرة وإن كانت مُملّة، فلقد قدمتُ إلى الكليّة وأنا مُكلَّف بحضور عدّة محاضرات، ولا أرى شيئًا مُهمًا يُفعل في ساعات المحاضرة غير حضورها، حتّى لو قرّرت أن أدرس في مكتبة الكلية، لن أكون بنفس الهدوء الذي أكون عليه في المنزل.
ولأنَّ العين يُسعدها التي أمثالها، ولأنِّي أريد أن أقلِّب طرفي على حبيب، وأرنو إلى صديق، أكتب شيئًا من طُرقي التي تجعل التركيز في المحاضرات أيسر، ولكنّ النصائح، على ما فيها من الخبرة والبراعة، لن تحوّل المحاضرة المُملة إلى مُمتعة، لكنِّها تجعل تجرّع الملل، شربة بعد شربة، أقلّ مرارة!
جلوس المقدمة
كُنتُ أخشى أن أُوصف بالطالب «النيرد» في سنوات الجامعة الأولى، كُنت شابًا يسعى لاثارة الاعجاب بما يمتلكه من مميزات، ولسان حاله يقول: لا تنكروني إنّني أنا ذاكمُ! لكنِّي بعد أربع سنوات، كبرتُ ولم أعد أهتم، لقد مات نزقي واستقامت كهولتي، أصبحتُ أهرع إلى الجلوس في الصف الأوَّل في كلِّ محاضرة.
أنا مُراهق، وحولي مراهقون، ونحن في سِني اثبات الذات، واثارة الإعجاب، وهذا ليس عيبًا، إنما هو ما يُضفي على أيّام الصِبا تلك الحلاوة! لهذا لو جلستُ في الصفِّ الثالث مثلًا، وفي ذلك المُدرج حسناء القدِّ، وفي المُدرّج الآخر هيفاء الكشح، فهل أتوقّع من نفسي أن ألطِّخ يدي بحبر القلم، وأدوِّن الملاحظات وراء الأستاذ المدرِّس! بالطبع لا، سأقول يا رجل تصبَّر، في البيت لطِّخ يدك ما شئت حبرًا، ماذا تقول علينا حسناء وهيفاء الآن!
وكما أعرف، حسناء وهيفاء لن يُتابعا لطخات الحبر على يديك، فهما منشغلتان أيضًا بذات المعضلة، هل سيقول علينا حمزة أنّ بعض الملاحظات أهّم من الذوق والبرستيج!
اشحن عقلك بالاسئلة قبل المحاضرة
لا أستطيع دائمًا أن أحضّر موضوع المحاضرة في اليوم السابق، فعادة ما أكون مُنشغلًا بالتحضير لمحاضرة واحدة فقط، وهذه تكون غالبًا محاضرة العملي إذ أنّها قد تخفي في طيّاتها كوزًا مفاجئًا.
تتبقّى عادة مُحاضرتين أدخلها وأنا لم أحضّر لها شيئًا، تعلّمت طريقة جديدة، أحاول أن أجعل عقلي مهتمًا بموضوع المحاضرة بأيّ طريقة مُمكنة، غالبًا ما أتصفحها بدقائق معدودات لا لفهم ما فيها، بل لأجل أن أملأ عقلي بالتساؤلات. عندما تملأ عقلك بهذه الأسئلة، ستدخل للمحاضرة وأنت تتشوّق لأن يُجاب شيء منها.
اسأل
عندما أسأل المُحاضر عن شيء في المحاضرة، أشعرُ أنَّ المحاضرة أصبحت ترتبط بي، وهذا ممّا يجعلني أكثر تعلّقًا بها، لا زلتُ أتذكّر كل محاضرة سألت فيها شيئًا، وأتذكر السؤال وتفصيل الجواب.
هناك أحيانًا مُحاضر ثرثار، وطالب يُريد أن يُجرِّب كل الاحتماليات في الكون داخل المحاضرة، وهذه وصفة بلاء لا أشدّ منها، لقد كانت مثانتي مُملتئة في محاضرة جراحة، وحلَّ هذا البلاء علي، قضيتُ المحاضرة ألعن السائل والمسؤول. لهذا تعلّمت أنّي عندما أريد أن أسأل، أسال عن شيء يخصُّ المحاضرة، حتى لو سمعه ذو المثانة المُمتلئة، سيجعله سؤالي ينشغل عن حالته قليلًا!
لا تغضب من المحاضر.
في محاضرة الباثولوجي الأخيرة، أُصيب فكِّي بشدٍّ عضلي لكثرما تثابتُ، الطبيبة المُحاضرة لم تكن تُجيد تغيير نبرة الصوت لايقاظ الطلبة، وكان الشرح مُملًا جدًا، مرَّت دقائق عديدة وأنا مُستفَزٌ منها.
لكنِّي تنبّهتُ أنّها تحاول، لقد كانت تسعى لأن تُفهمنا رغمَ قصور ما تملكه من مواهب في الشرح والتبسيط، ولا تستوي هذه مع آخر لا يسعى. شعرتُ انِّي أظلمها، حاولتُ أن أعينها بما أستطيع، ولو كان بتقليل التثاؤب، وتعديل الميلة في الجلوس، فمضت آخر ساعة من المحاضرة وأنا أكثر تركيزًا من بدايتها، وأكثر فهمًا.
اليوم طويل ومُمل ومُرهق
وجدتُ أنّ أكثر أسباب تململي من المحاضرات ليس بسببها، إنما لطول اليوم، ولو حضرت هذه المحاضرة في ظروف أخرى، لغنيّتُ لها: لكم بتُّ أشكو قصرَ الليل معك!
تأشير هذه المشكلة أوّل الخطوات لحلِّها، أقول لنفسي دائمًا، أنّ اليوم سيكون طويلًا ومُملًا، هكذا تكون أيّام كلية الطب عادة! لكنَّ الأهم هو انتزاع الصبغة السيئة التي تضعها أحكامي على هذا اليوم، أن يكون اليوم طويلًا، لا يعني أنّه سيكون يومًا سيئًا. السواد الأعظم من أيّامي الجميلة كانت بهذه الظروف، لا أتذكّر يومًا جميلًا ولم يحمل في طيّاته المشقّة، والراحة بعد العنا!