أتممتُ مؤخّرًا سنتي الثانية في كلّية الطب، سنة بمعناها الحرفي، فقد أتمّت أثنا عشر شهرًا، وأردتُ أن أكتبُ عن بعض الأفكار، وأشارك بعض التجارب، قبل أن تُنسى سِيّما أنّها في بالي طرية، ولا تظننَّ – معاذ الله- أنّي أحاولُ بتدوينتي هذه أن أنصحك، أو أظهرُ بمنظر الخبير الذي عرف الأسرار، لكنّي كما يقول أبو فراس، جرّبتُ حتّى هذبتني التجاربُ، وأيضًا، لأنّي أدفعُ أموالًا طائلة كل عام في استضافة المدوّنة ودومينها، فيكون من التبذير أن لو تركتها هكذا دون خربشات بين فترة وأخرى!
يطأ الثرى مُترفّقًا من تِيههِ فكأنّهُ آسٍ يَجسُّ عليلا
يصف أبو الطيّب المتنبي مشية أسد من الأسود، فيقول أنّه يطأ الأرض بترفّق، ويكون هذا من تِهيه وخُيلاءه، فهو الملك العزيز الذي لا يُنازعه أحد، حتّى كأنّه في مشيته اللينة هذه، طبيبًا يتحسّس مريضًا للعلاج، فهو يترفّق به ولا يتعجّل. والآسي هو الطبيب، ومنها المؤاساة، فأن تؤاسي الناس يعني أن تُصلحَ بينهم كما يُصلح الطبيب الجروح. يروقُ لي بيتَ أبي الطيب هذا جِدًا!
سبحانك
ممّا عرفته في دراستي، إنَّ هذا الذي ندرسه، ليس إلّا محاولة بشرية لفهم ما يجري، وكلّما تطورّت الأبحاث، عرفتَ البُعد الذي كُنت عليه في المحاولة السابقة، سوى أنّك لا تعرف نهاية الطريق أبدًا، تعلم علم اليوم والأمس قبله، لكنّك عن علم ما في غدٍ عمي، ورغم هذا البُعاد عن الوصول، فإنّي وجدتُ ما نعرفه من المعلومات حول الجسم يكفي لعلاج معظم الحالات، ويكفي للتأثّر بإعجاز خلقه، كل شيء مُبهر في هذا الجسم الذي صمّمه الخالق بدقّة، وإنّي لعمرك بمثل تأثّر سحرة فرعون بهذا الإعجاز، فهم قد عرفوا أن الذي يفعلونه لعب وخداع مقارنة مع سحر موسى، وأنا أعلم أن مهما أبدع البشر في البنيان، وتطاولوا في العمران، لن يستطيعوا أن يخلقوا غرامًا واحدًا من نسيج يُديم نفسه ذاتيًا لمدة أسبوع، لا ستّين سنة، وإنّي أُعيذك، كما يقول مولانا محمّد أبو موسى، من أن ترى المُدهش ولا تندهش.
معرفة شيء من هذه النعم أمر يرقق القلوب، لكنّنا نتلقّى هذه المعلومات من لاتينية جامدة، تسندها إنكليزية أكثر جمودًا، فلا تشعرُ بالحياة تنبعثُ من هذا الإعجاز. كانت لي أمنية، أن أُبعث في الثانية بلسان قريش، فلهجتهم الفصيحة من أعذب لهجات العرب، أمّا الآن فلي أمنية ثانية، أن أُزوّد في آخرتي بوحي كتاب من الخالق، تستبينَ دقائقُ الخلق فيه، ولن أمانع لو كان الشرح بلسان قريش أيضًا!
اللغة
ندرس الطب بالإنكليزية، وتلك تقتبس معظم مصطلحاتها الطبيّة من اللاتينية، فأصبحتُ وأنا العربي، أعجمَ طمطميًا في لغة هؤلاء، وهذا إن لم يؤثّر على فهمي للمادة بتلك الدرجة، فإنّه جعلني أفقد أحد أهم مزايا لغتي الأصلية، وهي أن أفكّر بها، ومن يُفكّر بلغة غيره مسخ، لأنّك تعرف الكلمة فقط، ولا تعرف ثقافتها، فتصير بين اعاقتين، لا تعرف ثقافة الكلمة، وطبقات المعاني التي تحملها، إلّا ما تقدّمه لك الترجمة الحرفية، والأمر الثاني أن فهمك لا يكون مرنًا، إلّا بعد إعياء، لأنّ تعلّم الكلمة الأجنبية الغريبة، قد يُوهمك أنّك فهمت الموضوع، وليس هذا إلّا مرحلته الأولى، لكن للأمر حسنات، فهم أكثر تطورًا من النواحي الطبيّة، والدراسة بلغتهم تعرّفك بالقوالب التي يستخدمونها في المصادر العلمية، لكنّي أتشوّق أن أسمّي Molar Teeth بالعوارض، حيثُ هي مُحمّلة عندي بمعاني البياض وبرُودة الريق من بيت كعب بن زهير:
تجلو عوارضَ ذي ظلمٍ إذا ابتسمتْ … كأنّه منهلٌ بالراحِ معلولُ
المحاضرات
تابعتُ تسجيلًا قديمًا للدكتور نوفل، رئيس قسم التشريح في كلّيتنا، لا أخفي إعجابي بهذا الرجل، فأسئلته تختبرُ الطالبَ حقًا، المهم في نهاية المحاضرة، عرضَ لهم إحصائية جمّعها بنفسه، عن أداء الطلبة في العام الماضي، وبعد أن بثّ الرعب وأخبرهم برسوب ما يقارب نصف الطلبة، عرض لهم إحصائية عن أفضل 50 درجة، وقارنها بنسبة حضورهم للمحاضرات، فكانت 75%، أمّا اسوأ 50 درجة، فنسبة حضورهم كانت 35%
هذا يعني أن حضور المحاضرات يزيدُ على درجة التشريح ثُلثًا، حسنًا هناك احتمالية أن يكون الفارق بينهم فرديًا، يعني أن السيء سيء حتّى وإن حضر، لكن العيّنة وهي 50 طالبًا من كلا الطرفين، أكبر من أن تتأثّر بهذا الفارق الفردي، وما يهمّ أن التشريح طيلة العامين كان من أصعب الدروس، وحقيقة أنّ الدرجة تزداد ثلثها بحضور المحاضرة، قد يعني أن النسبة تكون أكبر مع دروس أسهل.
أنا لا أحب حساب الدرجات هذا، لكن الذي يهمني، هو مدى تأثير هذا على الوقت، فالوقت أثمن ما تملكه، والدرجات إلى زوال، لكن إذا كانت تلك الساعة التي تأخذها في الكلّية، تزيد درجتك بهذا القدر (والدرجة توازي الفهم) هذا يعني أنّك ستوفّر وقتًا أكبر عندما تكونُ في المنزل، لدراسة مادة أخرى، أو توفيره لفعل شيء يهمّك أكثر وبعيد عن الدراسة.
لهذا، أحبُّ حضور المحاضرات، حتّى وإن كانت محاضرة امبريولوجي مملّة، فأنت لن تخرج خالي الوفاض، حتّى وإن خرجتَ بشعور: دخت! فهذا سيكون محفّزًا لدراسة المادة، جزء من عقلك سيتذكّر هذا الشعور السلبي، وأنت أقرب لدراسة المحاضرة ممّا لو كنتَ لاهيًا متسكعًا، لهذا، ما لم تكن تفعل شيئًا أكثر انتاجية في وقت المحاضرة، كأن تدرس في المنزل، أو تقرا في مكتبة الكلّية، لا أرى داعيًا للتفريط بالمحاضرة، وأنت أيضًا عندما تحضر، ترى بشرًا، من يشرحُ لك بشر، لا بكسلات شاشة، هذه أمور مهمّة لدماغك الذي يبحث على التفاعل مع كائنات اجتماعية مثله.
المصادر
من الأمور التي طُبعت في ذهني ممّن يكبروني سنًا، أنّي لا أحتاج لقراءة المصادر، والمصادر هي أمهّات الكتب، تلك التي يؤخذ منها العلم، وتستفيض بالشرح جدًا، وقالوا يوتيوب يكفي للفهم، وهذا فعلًا صحيح، فيديو يوتيوب واحد قد يوفّر عليك بحث غير يسير في تلك المصادر، ويهيّئ عقلك لتقبّل الموضوع، لكنّ الاعتماد على يوتيوب فقط يقتل الإبداع، ويمحو معنى الطالب في أسمك، فأنت تطلب العلم، ولا يأتيك هو مُمنتجًا مُمكيجًا. وفوق هذا، المصدر فيه معلومات عميقة، وكلّما تعمّقت، أصبحتَ ترى الموضوع من مكان أوسع، وكأنّك كُنت تتصارع معه وجهًا لوجه، والآن أصبحت تقف على تلّة بعيدة، ترى مكانات ضعفك في تلك المصارعة، ستعرف ما تحتاجه تحديدًا لإتقان الموضوع
أكثر فرق مهم ألاحظه عندما أقرأ مصدرًا (ويا لحسرتي لم أفعل هذا إلّا آخر فترة) هي أنّي لا أصبح عبدًا لكلمات المحاضرة المنهجية، فقد تُشكل عندي في السابق جملة في محاضرة الكلية، وأبقى أبحث عن تفسيرها، بينما لو كُنت قرأت المصدر في البداية لحدّدتُ اهميّة هذه الجملة، فهناك جمل كثيرة تُوضع تحلِّة ليمين، لا تساعد في الفهم ولا يضرّ إهمالها. وإذا كانت هذه الجملة مهمّة، فقد عرفت من المصدر سياقها، وعرفت كيف ترتبط بالموضوع، حتّى لو لم تفهمها حرفيًا. عمومًا، هناك مرئيّات عظيمة على يوتيوب وغيره، وقد تستعيض بها فعلًا عن المصدر، مثل شروحات نجيب الهندي، وناجي المصري في الفزيولوجي.
التركيز
التركيز بعمق في عالم تحفّه المشتّتات
التركيز هو عملتك النادرة في كليّة تتطلّب أن تكون مستعدًّا لتلقّي كل ما يُلقي عليك من معلومات جديدة طوال السنة، وقدرتك على أن تُحكم فهم هذه المعلومات بسرعة أمر مهم جدًّا، في السنة الأخيرة تعرّفت على كتب كال نيوبورت بهذا الخصوص، وكانت ذات فائدة عظيمة، تبلورت أفكاري عن الموضوع في مقالي الذي أعتبرهُ أجود ما كتبتُ: التركيز بعمق في عالم تحفّه المشتتات، فكانت من أهم الأفكار التي أصبحت تخالط روتين يومي هي أن أُنهي دراستي بعد السابعة مساءً، أبقى بعيدًا عن منصّات التواصل، و حمّلت إضافات ساهمت بأن أنشر فقط على تلك المنصّات ولا أتلقى ما يُنشر هناك، تقليل التعامل مع منصّات التواصل يساهم بالمحافظة على لياقتي الذهنية، تبدو كلمة فاخرة، لكنّها صحيحة، فالتركيز يحتاج للإعتناء حتّى في غير ساعات الدراسة، هذا إن أردتَ أن تحافظ على هذه النعمة وتستغلها قبل أن يمضي بك العمر مسرعًا.
التركيز واستخدام أنكي
لا أذكر تدوينة لم أهذي فيها حول أنكي، ولكنّه هذيان مُحبّبٌ إلى نفسي، أنكي مكمّل للجهد الذي تبذله في فهم المواد، فأنت عندما تفهم الموضوع، تحتاج أن تكون قادرًا على استرجاعه في وقت الحاجة، وهيكيلية الامتحانات في الكلّية لا تساعد على هذا، فتكون محظوظًا لو امتحنت امتحانًا نصفيًا قبل الإمتحان النهائي، وهذا تكرار لا يكفي لتبقى المعلومة معك حين تحتاجها حقًّا، لذلك استعمال برنامج مثل أنكي، يُتيح لك أن تُكرِّر المعلومة مرّات عديدة قبل وبعد الإمتحان، ولن يكلّفك هذا مجهودًا خارقًا، فكأنّك وزّعتَ المجهود الكبير الذي تبذله قبل الإمتحان بأيّام، على طيلة أيّام الكورس، وبهذا التوزيع تسمح للمعلومات أن تبقى معك حتّى بعد أن ينتهي الإمتحان. لم أعد أستخدم أنكي في الدراسة فقط، فوظّفته حتّى لحفظ القرآن والشعر، لكن كبداية، كتبتُ مرّة مقالًا مطوّلا عن البرنامج، ووضعتُ فيه روابط تُعين من يبدأه لأول مرّة. أنكي وتذكر كل شيء – التكرار المتباعد ودراستي في الطب
التركيز واستخدام فورست
لعلّكم تألفون تطبيق Forest فهو عدّاد للدقائق التي تقضيها مُركّزًا في مهمّة ما، ما يُعجبني في هذا التطبيق عدّة خصائص، منها أنّك تستطيع الوصول لاحصائيات أداءك في أيّ يوم أو أسبوع في السنة، دائما تكون عندي أسابيع مميّزة أقتدي بها، وأقيس نجاحي مقارنة بها، فورست تطبيق عظيم لشخص مهووس بالاحصائيات مثلي.
وفي فورست قسم للأصدقاء، وفيه تطّلع على دقائق أصدقائك، وعندما تراهم يزيدون عدّاد دقائقهم، تُبعثُ فيك الهمّة والحميِّة! وهناك ميّزة اكتشفتها مؤخّرًا، وهي أنّهم يملكون مجموعة على التلغرام، حيث ينشر فيها الناس اكوادًا خاصة، تستطيع فيها الانضمام لغرف دراسية، يُحدِّد الناشر وقت الجلسة، وتنطلق معه. إذا أوقفت العدّاد كالخروج من التطبيق، أو أنهيت الجلسة، سيخسر الجميع، وسيعرفون أنّك المتسبّب بهذا، وقد ينشروك على المجموعة، آخر ما تريد أن تفعله هو أن تُخيِّب شقراء أوربية بسبب تشتّتك! الالتزام معهم حتّى نهاية الجلسة مفيد جدًا، فهو يطيل نفسي، ويجبرني على دراسة شيء إضافي كل مرّة، فعندما أكون وحيدًا، أتوانى مع فضول الدقائق، فهذا حافز إضافي بدلًا من أن أتسرَّع للنهاية.
السفر
منذ الأيّام الأولى، درستُ بأسلوب من يُريد امتحان المعادلة USMLE، كانت خطّة معادلة الشهادة على بالي، وهي مُغرية لكل طبيب مهتمٌّ بعمله حقًا، فالفرص والإمكانيات هناك لا تُقارن بما يوجد هنا، لكن امتحان المعادلة صعب، ويتطلّب اجتهادًا، وليست هذه مشكلتي، إنّما هي في السفر نفسه، يقولون أن سافر تجد عوضًا عمّن تُفارقه، ولن أجد عُوضًا عن أهلي الذين يقدّموني على أنفسهم، ولن أجد عِوضًا عن ديني القويم، ولا حتّى لغتي العريقة، سأخسر كل هذا، والأسوأ فكرة أن يخرج من ذرّيتك على غير الدين، خصوصًا بعد مفارقتي للدنيا، وهذا هو الأمر الطبيعي عندما تقضي حياتك في غير بيئتك، التيّار أقوى منك، لذلك سأبقى أذوذ عن هذا الدين ولغته في بلادهما إلى أن القى الله تعالى.
هذه الفكرة النبيلة، قد تجعلني فريسة لحياة الرخاء، فلماذا أسعى إذا كُنت باقيًا هنا؟ لكنّي أدافعها دائمًا، لا زلتُ أقرأ بأسلوب USMLE، ولو سنحت لي الفرصة سأمتحن هذا الإمتحان، حاجة في نفس حمزة يقيضها، وليس شرطًا أن تتغرَّب، تطوير الشهادة أمر جيّد دائمًا، في بلادك أو بلاد عربية أخرى.
التدوين
إنشاء المدونة كأن تحدّيًا لعائق كبير يراودني، وهو حِسّ الكمال، كمال مشوب بالغرور، حِسٌ يأنف أن يراه الناس وهو يحاول الصعود، بل يريد أن يروه وهو على القمّة من البداية، أو لا يرونه أبدًا. لذلك المدوّنة ساعدتني أن أضع أفكارًا ليست بهذا الكمال أمام الملأ، حسنًا لا يزال هذا الشعور يراودني أحيانًا، فقد شككتُ بجدوى هذه التدوينة لأكثر من مرّة، لكنّي شككتُ بجدوى غيرها من قبل، وأنتهى بها الأمر أنّها كانت أفضل ما كتبت.
أدينُ لهذه المدوّنة بالكثير، ففوائد التدوين جمّة، أكثر ما أحبّه، أنّي أستطيع أن أرتّب أفكاري، نوع من العزلة التي نفتقدها مؤخّرًا، تُقيِّم في هذه العزلة أفكارك، مدى انسجامها مع الفطرة والأصالة فيك، وبعد هذا الاختبار، يأتي آخر، وهو كيف يمكن أن تصوغ هذه الأفكار بشكل تفهمه أنت، ويفهمه من هو أصغر منك، ولا أقولُ أنّي نجحتُ في التبسيط، فعرفتُ أن هناك من يعاني حتّى يفهم تدويناتي، لكن هذا هو المطلوب، أن تعاني، ولكن من دون إفراط، فبهذا تستطيع أن تتعلّم شيئًا جديدًا، وإلّا ما فائدة أن تقرأ كلامًا سهلًا مألوفًا؟
وإذا أسهبتُ بالفوائد، فهناك فائدة أن تملك أفكاركَ مُسجّلة في مكان ما، تعود إليها إذا ما تغيّرت أو تقوّمت يومًا، تفهم كيف كُنتَ تُفكّر، أراجع تدويناتي بين فترة وأخرى، وإذا أطال الله عمري، بعد عدّة سنوات، سأحبُّ أن أرى كمًّا وفيرًا من التدوينات التي تعبّر عن خطّ التطور الذي يحصل معي، والتدوينات مع كل هذا، تُتكتب في جوٍّ هادئ، يُساعد على انتظام الأفكار وطول النفس فيها، فلا أشجّع مثلًا أن تنشر هذه التدوينات على منصّات التواصل، فالهدوء آخر ما يُوجد فيها، ومحاباة أصدقائك تمنعك من التفكّر فيما تكتب، وفرصة أن يقرأها أناس يهتمّون بها فعلًا قليلة، سُعدتُ أن كثيرًا من تدويناتي ساهمت بتعريفي على شخصيات جليلة، وآخرين لا أعرفهم، ويكملون القراءة حتّى الآن، شاكرًا لهم طُول النفس هذا.